للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهوال يوم القيامة]

ثم بعد الفناء بعث ونشور، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦]، بل إن هذه الأرض الثابتة الراسية، وتلك الجبال الشم الشامخة، وهذه النجوم التي تنتثر في صفحة السماء، وهذه الشمس التي تشرق في كل يوم، وهذا القمر الذي يضيء سماءكم، كل ذلك يصير إلى زوال.

أما الأرض والجبال فتحملان وتدكان دكة واحدة، كما قال تعالى: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة:١٤] فتصبح الجبال كثيباً مهيلاً كالرمل الناعم بعد أن كانت صلبةً قاسيةً لا تؤثر فيها المعاول ولا الفئوس.

ثم تنسف وتزول فتصبح هباء منثوراً، كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:١٠٥ - ١٠٨].

((يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا)) ثم تصبح الأرض مستوية، فلا ترى فيها جبالاً عاليةً ولا وديان ووهاداً، بل تصبح أرضاً مستوية بارزة ظاهرة، وعندها لا يستطيع الإنسان أن يختفي تحت صخرة أو تحت شجرة أو في غار، قال تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} [إبراهيم:٢١] فالجميع ظاهرون وبارزون.

أما الشمس فإنها تكور وتلف ويذهب ضوءها، وتنكدر نجوم السماء فتنتثر نجومها وينفرط عقدها، كما قال سبحانه: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} [الانفطار:٢] فتنتثر كواكب السماء وتتساقط، فينفرط هذا العقد الذي يربطها، وتطمس النجوم ويذهب ضوءها.

حدث عظيم، وأهوال مرعبة، وليس الخبر كالمعاينة، فنحن عندما نسمع الحديث قد يؤثر فينا تأثيراً قوياً أو تأثيراً ضعيفاً، ولكن الذين يشاهدون الحدث يذهلون كأنما هم سكارى، كما أخبر الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:١ - ٢].

مع أن الأم أحن ما تكون على طفلها إذا كان رضيعاً، ومع ذلك فهي تذهل عنه، وتسقط الحامل حملها لشدة الرعب والفزع، ويشيب الطفل الصغير الذي لم يبلغ السنة من عمره، كما قال تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} [المزمل:١٧ - ١٨].

وفي ذلك اليوم يجمع الله الأولين والآخرين، فينادي إسرافيل في الصور كما قال سبحانه: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:٤١] فيقول: أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة إن الله يأمركن أن تجتمعن، فتجتمع العظام ثم تكسى لحماً، ثم تخرج كما قال سبحانه: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق:٤٤].

فعندما ينادي المنادي ترى العجب الأعظم حينما ينبت إنسان من هنا كالنبات بل أسرع منه، كما قال تعالى: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:٥١]، وقال: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ} [طه:١٠٨] فيجيبونه لا يتخلف أو يعتذر منهم أحد كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:٩٣ - ٩٥]، كتاب عند الله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأعدها.

حتى إن الإنسان الذي مات في الصحراء فأكلت لحمه الطيور، وأخذت منه السباع، وغيبت بقيته الأرض، يعيده الله تبارك وتعالى إذا شاء حياً كما كان، فيعيده جسداً سوياً، ثم ينفخ في الصور فتعود إليه الروح كما قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨].

فصعقة تميت، وصعقة تحيي، ثم ((يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) ويجمع الله الأولين والآخرين: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ} [الواقعة:٤٩ - ٥٠] فيجمع الأولون من آدم إلى آخر رجل وجد على ظهر هذه الأرض، ثم يوقفون بين يدي الله تبارك وتعالى فيحاسبهم على ما قدموا، أذلاء، ناكسي رءوسهم، خاشعين، خائفين، جاحظة عيونهم، {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:٤٣]، فلا يدرون ماذا يراد بهم، ولا يستطيعون نطقاً أو كلاماً، فالحقيقة فوق كل شيء.

وكلنا ذلك الرجل الذي سيكون هناك، وكلنا سيقف ذلك الموقف، وكلنا سيمر بيوم عسير، قال الله تعالى: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:٥٢]، ويقول الكافرون في ذلك اليوم وهم يخرجون من الأجداث: {هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:٨] أي: هذا يوم شديد، فمهما كانت الدنيا حلوةًً، وزهرتها جميلةًًًًًًًًًً، وأيامها طويلةًًً، فلن تساوي في ذلك اليوم شيئاً.

فيظن الناس أنهم ما لبثوا فيها إلا أياماً أو يوماً، ويظنون أنها لمحة بالنسبة لذلك اليوم الطويل الرهيب، فلمثل ذلك اليوم فليعد الناس، يوم يحتاج فيه إلى الزاد، فإما أن يكسوك إيمانك وعملك الصالح وينجيك وإما أن يوبقك.