فالأمة الإسلامية عندما التزمت بتشريع الله تبارك وتعالى أعزها الله ورفعها، إلى أن تغير المسار، وجاءت عصور الانحطاط، والذي يمعن النظر في واقع هذه الأمة اليوم يطول عجبه ويكثر تفكره، فالمتفكر في حال الأمة الإسلامية عندما يقارن بين حاضرها المشهود وماضيها الغابر يهوله الأمر، فالبون شاسع والفرق بعيد، وعندما يرجع الباحث مرة أخرى مقارناً بين الواقع المشهود والواقع الذي رسمه القرآن لهذه الأمة، فإنه يجدها لا تتبوأ المقعد الذي حدده القرآن لها، والدارس لخط سير تاريخ الأمة الإسلامية يجد أن استمرار الأمة الإسلامية على خصائصها التي جعلها الله لها من كونها خير أمة لم يستمر على وتيرة واحدة؛ فالخط البياني كان ولا يزال متذبذباً بين هبوط وصعود، وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا التذبذب في خط سير الأمة الإسلامية في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان أنه قال:(يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قال: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه، قال: قوم يهدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر، قلت: يا رسول الله! فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك، قال: فالزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).
فالأمة الإسلامية -كما يشير الحديث- يصيبها الشر فتضعف وتهزل، ثم تعود إلى أصالتها، وقد تكون العودة عودة مشوبة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(وفيه دخن)، وقد يكون الانحراف هائلاً، وذلك عندما يتسلط على رقاب هذه الأمة دعاة على أبواب جهنم يدعون الناس إلى مذاهب كافرة، فمن استجاب لهم كان مصيره النار وبئس القرار، ولقد ألمحنا من قبل إلى أن الرقي العظيم الذي رفع هذه الأمة هو أخذها بالدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى، ثم التفافها حول هذا الدين، فأصبحت أمة واحدة فتشكل من هذه الأمة قوة هائلة لا تغلب، ويمكن أن نعيد تأخر المسلمين وانحطاطهم إلى قضية واحدة: وهي الفرقة التي مزقت وحدتها، فجعلتها أمماً وشيعاً وطوائف وتجمعات، فالسمة العظيمة التي تعطي الأمة الإسلامية مكانة قوية هائلة هي اجتماعها على أساس من دينها، وهذه حقيقة طالما كررها القرآن الكريم، ونبه إليها وأمر بها، فقد أمرنا القرآن بالوحدة ونهانا عن الاختلاف والتفرق، فقال سبحانه:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}[آل عمران:١٠٣]، ثم ذكرنا بالحال التي كنا عليها قبل الإسلام:{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}[آل عمران:١٠٣]، ونهانا عن التفرق والاختلاف:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:١٠٥].
وقد أخبرنا جل وعلا أن التنازع والاختلاف يسبب الفشل وذهاب القوة، بينما تجعل الوحدة الأمة قوية متماسكة في وجه الرياح والأعاصير، وعندما توجه هذه القوة مجتمعة نحو أعدائها فإنها تفتت بأسهم وتقضي على كيدهم، ولذلك لا يمكن أن تهزم الأمة إذا كانت مجتمعة، فسنة الله تبارك وتعالى أن هذه الأمة إذا ما اجتمعت فلا يمكن أن تهزم ولو وقفت الدنيا بأسرها في وجهها، وهذا ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض -ملك كسرى وقيصر-، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة) يعني: لا يكون بلاء عام يستأصل المسلمين، وإنما قد يصيب بعض الأمة، لكنه لا يصيب الأمة بكاملها، مثل ما أصاب قوم نوح والأمم من قبلنا، حين استأصل الأمة بكاملها، فهذا لا يحدث لهذه الأمة ثم قال:(ولو اجتمع عليهم من بأقطارها) يعني: ولو اجتمعت الدنيا كلها في مواجهة المسلمين فلن يقدروا أن يتغلبوا على المسلمين، (حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً) يعني: إذا تفرقوا واختلفوا وسفك بعضهم دم بعض، وأسر بعضهم بعضاً، ودمر بعضهم بعضاً، فعند ذلك تصير قوتهم وبأسهم فيما بينهم، وعند ذلك يرفع الله تبارك وتعالى نصره عنهم.
ولقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ملك المسلمين سيصبح عظيماً، وأنه سيمتد على رقعة واسعة في جنبات الأرض، وأن هذه الأمة ستحطم الدولتين العظيمتين في ذلك الوقت: الفرس والروم، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله وعده ألا يصيب هذه الأمة بهلاك عام، وألا يسلط عليها أعداءها فيأخذون ملكها ويعلون عليها ويقهرونها، ولو اجتمعت كل قوى الشر ضدهم.