إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: يذكر الصحابي الجليل عدي بن حاتم رضي الله عنه: أنه كان جالساً يوماً في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجال يشكون ما يجدون من بلاء عندما يسافرون ويرحلون، حيث يعتدي عليهم الناس فيأخذون أموالهم، وقد يجلدون ظهورهم ويسفكون دماءهم، فقد كانت الجزيرة العربية قبل الهجرة النبوية أشبه بغابة، يتسلط القوي فيها على الضعيف، والأقوياء يسلبون أموال الناس، حيث كانت بعض القبائل تغير على بعض وتقطع الطريق.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عدي بن حاتم:(يا عدي! أتعرف الحيرة -بلد في العراق-؟ قال: لم آتها وقد حدثت عنها، قال: لئن طالت بك حياة لترين الظعينة -المرأة التي تركب جملها- تسير من الحيرة إلى مكة لا تخشى إلا الله والذئب على غنمها) ومعنى ذلك أن هذه الجزيرة التي هي أشبه بغابة في ذلك الوقت ستتحول إلى واحة آمنة، فلا يأمن الجيش أو الجماعة أو الرجل القوي المسلح فحسب، بل تأمن المرأة الضعيفة التي لا تستطيع أن تدافع عن نفسها، فتسير هذه المسافات الشاسعة لا تخشى أن يعتدي عليها معتد، ولا تخشى أن يقطع الطريق قاطع، وإنما تخشى الله تبارك وتعالى، وكذلك تخشى الحيوان المفترس، لأن الحيوانات المفترسة لا يحدها أو يمنعها مانع عن العدوان.
قال عدي: فقلت في نفسي: فأين دعار طيء؟ أي: لصوص طيء، وكيف ستسير هذه الظعينة هذه المسافات الشاسعة ولا يعترضها اللصوص! فهو رضي الله عنه يتحدث عن قبيلته؛ لأن فيها لصوصاً.
ولا يمنع هذا أن يكون في القبائل الأخرى لصوص أيضاً، قال:(ولئن طالت بك حياة لتفَتحن -أو لتفُتحن- كنوز كسرى وقيصر، قلت: يا رسول الله! كسرى بن هرمز؟ قال: نعم، كسرى بن هرمز، قال: ولئن طالت بك حياة ليخرجن أحدكم زكاة ماله فلا يجد من يتصدق عليه، وليبعثن أحدكم يوم القيامة ليس بينه وبين الله ترجمان، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا).
يقول عدي بن حاتم عندما كان يحدث بهذا الحديث: فهأنذا أرى الظعينة تنتقل من العراق إلى مكة، وتسير في أرجاء الدولة الإسلامية، فلا تخشى إلا الله والذئب على غنمها، وكنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، أي: أنه كان أحد الجنود الذين فتحوا بلاد كسرى وقيصر، وأخذوا تلك الكنوز الهائلة التي كانت في خزائنهم.
قال عدي: ولئن طالت بكم حياة لترون الثالثة، أي: إذا طال بكم العمر سترون أن الثالثة ستقع، وقد وقعت الثالثة في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقد كان الرجل يخرج زكاة ماله فلا يجد أحداً فقيراً يقبضها.
قال المؤرخون: لقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس فلم يوجد فقير، وتسير في طول المدينة وعرضها تبحث عن فقير فلا تجد.