فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، فَلَا يَتَقَدَّرُ بِالرُّبْعِ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ صَرَّحَ فِي دَلِيلِهِ بِإِبْطَالِ مَذْهَبِ خَصْمِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَصْحِيحِ مَذْهَبِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ إِبْطَالِ مَذْهَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصْحِيحُ مَذْهَبِ الْآخَرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ هُوَ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَهُوَ وُجُوبَ الِاسْتِيعَابِ.
نَعَمْ، لَوْ كَانَ الْقَائِلُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَائِلَانِ، وَالِاتِّفَاقُ مِنْهُمَا وَاقِعٌ عَلَى نَفْيِ قَوْلٍ ثَالِثٍ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَعَرُّضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْآخَرِ تَصْحِيحُ مَذْهَبِهِ، ضَرُورَةَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلٍ ثَالِثٍ، وَذَلِكَ كَالْحُكْمِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ.
وَإِنْ كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْغَائِبِ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُعَوَّضِ كَالنِّكَاحِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَالنِّكَاحِ.
فَإِنَّ الْمُعْتَرِضَ فِي هَذَا الْمِثَالِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الْقَوْلِ بِالصِّحَّةِ صَرِيحًا بَلْ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ فَقَدْ قَالَ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ لَازِمُ الصِّحَّةِ، فَإِذَا بَطَلَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَقَدِ انْتَفَى اللَّازِمُ وَيَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ.
وَيَلْتَحِقُ بِأَذْيَالِ هَذَا الْقِسْمِ الثَّالِثِ قَلْبُ التَّسْوِيَةِ، وَمِثَالُهُ قَوْلُ الْحَنَفِيِّ فِي مَسْأَلَةِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْخَلِّ: مَائِعٌ طَاهِرٌ مُزِيلٌ لِلْعَيْنِ وَالْأَثَرِ، فَتَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ كَالْمَاءِ، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: مَائِعٌ طَاهِرٌ مُزِيلٌ لِلْعَيْنِ وَالْأَثَرِ فَتَسْتَوِي فِيهِ طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ كَالْمَاءِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْقَوْلِ بِالتَّسْوِيَةِ فِي الْخَلِّ بَيْنَ طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ عَدَمُ حُصُولِ الطَّهَارَةِ بِالْخَلِّ فِي الْخَبَثِ لِعَدَمِ حُصُولِهَا بِهِ فِي الْحَدَثِ، وَالْحُكْمُ بِالتَّسْوِيَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَعْلَى مَرَاتِبِ أَنْوَاعِ الْقَلْبِ مَا بُيِّنَ فِيهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ وَلَا يَدُلُّ لَهُ، ثُمَّ يَلِيهِ النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ مَا بُيِّنَ فِيهِ أَنَّهُ يَدُلُّ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِ هَذَا النَّوْعِ مَا صُرِّحَ فِيهِ بِإِثْبَاتِ مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ، وَهُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْهُ.
ثُمَّ مَا صَرَّحَ فِيهِ بِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ فَإِنَّهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَصْحِيحُ مَذْهَبِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْهُ.
ثُمَّ الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَإِنَّهُ وَإِنْ شَارَكَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي فِي إِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، إِلَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ وَمَا قَبْلَهُ بِصَرِيحِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute