للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ فَسَادُ الْوَضْعِ]

وَاعْلَمْ أَنَّ صِحَّةَ وَضْعِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَيْئَةٍ صَالِحَةٍ لِاعْتِبَارِهِ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَفَسَادُ الْوَضْعِ لَا يَكُونُ عَلَى الْهَيْئَةِ الصَّالِحَةِ لِاعْتِبَارِهِ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ.

وَقَدْ مَثَّلَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَا تُلِقِّيَ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ مُقَابِلِهِ، كَتَلَقِّي التَّضْيِيقِ مِنَ التَّوْسِيعِ وَالتَّخْفِيفِ مِنَ التَّغْلِيظِ وَالْإِثْبَاتِ مِنَ النَّفْيِ وَبِالْعَكْسِ.

وَأَنْ يَكُونَ مَا جَعَلَهُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ مُشْعِرًا بِنَقِيضِ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ فِي النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ: لَفْظٌ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ يَقْتَضِي انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِهِ، لَا عَدَمَ الِانْعِقَادِ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ يَقْتَضِي الِاعْتِبَارَ لَا عَدَمَ الِاعْتِبَارِ (١) .

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ مَسْحٌ فَيُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ وَكَمَسْحِ الِاسْتِطَابَةِ فَإِنَّ الْمَنَاطَ كَوْنُهُ مَسْحًا وَالْمَسْحُ تَخْفِيفٌ وَالتَّخْفِيفُ يُشْعِرُ بِالتَّخْفِيفِ، وَالتَّكْرَارُ تَثْقِيلٌ.

وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ فَاسِدِ الْوَضْعِ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، وَلَيْسَ كُلُّ فَاسِدِ الِاعْتِبَارِ يَكُونُ فَاسِدَ الْوَضْعِ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ يَكُونُ صَحِيحَ الْوَضْعِ وَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُهُ فَاسِدًا بِالنَّظَرِ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.

وَلِهَذَا وَجَبَ تَقْدِيمُ سُؤَالِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ عَلَى سُؤَالِ فَسَادِ الْوَضْعِ ; لِأَنَّ النَّظَرَ فِي الْأَعَمِّ يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى النَّظَرِ فِي الْأَخَصِّ لِكَوْنِ الْأَخَصِّ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْأَعَمُّ وَزِيَادَةٌ.

وَإِذَا عُرِفَ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي سُؤَالِ فَسَادِ الْوَضْعِ، فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: اقْتِضَاءُ الْوَصْفِ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، إِمَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ (يُرَادُ بِهِ اقْتِضَاؤُهُ لَهُ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ نَقِيضَ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ إِشْعَارُ اللَّفْظِ، وَإِمَّا اعْتِبَارُ الْوَصْفِ فِي نَقِيضِ الْحُكْمِ فِي صُوَرِهِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ.

فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِمَّا أَنْ يَدَّعِيَ) أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُسْتَدِلُّ، أَوْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.


(١) انْظُرْ ص ٥٣٣ - ٥٣٤ مِنْ ج ٢٠ مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَّةَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>