[الْمَسْأَلَةُ الثَّالثة لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مُصِيبًا والْإِثْمَ غَيْرُ مَحْطُوطٍ عَنْ مُخَالِفِ مِلَّةِ الْإِسْلَام]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مُصِيبًا، وَأَنَّ الْإِثْمَ غَيْرُ مَحْطُوطٍ عَنْ مُخَالِفِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ نَظَرَ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ أَمْ لَمْ يَنْظُرْ.
وَقَالَ الْجَاحِظُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ (١) مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ بِحَطِّ الْإِثْمِ عَنْ مُخَالِفِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ إِذَا نَظَرَ وَاجْتَهَدَ، فَأَدَّاهُ إِلَى مُعْتَقَدِهِ، وَأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِخِلَافِ الْمُعَانِدِ.
وَزَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ بِأَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مُصِيبٌ، وَهُوَ إِنْ أَرَادَ بِالْإِصَابَةِ مُوَافَقَةَ الِاعْتِقَادِ لِلْمُعْتَقِدِ فَقَدْ أَحَالَ وَخَرَجَ عَنِ الْمَعْقُولِ، وَإِلَّا كَانَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الْعَالَمِ وَقِدَمُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقًّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ اعْتُقِدَ فِيهَا النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ بِنَاءً عَلَى مَا أَدَّى إِلَيْهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالَاتِ، وَمَا أَظُنُّ عَاقِلًا يَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ بِالْإِصَابَةِ أَنَّهُ أَتَى بِمَا كُلِّفَ بِهِ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ وُسْعِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي الْمُخَالَفَةِ غَيْرُ آثِمٌ، فَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَاحِظُ، وَهُوَ أَبْعَدُ عَنِ الْأَوَّلِ فِي الْقُبْحِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَالٍ عَقْلًا، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي إِحَالَةِ ذَلِكَ وَجَوَازِهِ شَرْعًا.
وَقَدِ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} ، وَقَوْلُهُ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .
وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ: أَنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْعِقَابِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِيهِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا عُلِمَ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِلْمًا لَا مِرَاءَ فِيهِ تَكْلِيفُهُ لِلْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِتَصْدِيقِهِ، وَاعْتِقَادِ رِسَالَتِهِ، وَذَمُّهُمْ عَلَى مُعْتَقَدَاتِهِمْ، وَقَتْلُهُ لِمَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ،
(١) الْجَاحِظُ هُوَ أَبُو عُثْمَانَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ مَاتَ عَامَ ٢٥٠ أَوْ ٢٥٥ هـ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ كَانَ قَاضِيًا بِالْبَصْرَةِ وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مَاتَ عَامَ ١٨٦٨ هـ.