[الْمَسْأَلَةُ الخامسة تَأْخِيرِ تَبْلِيغِ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْعِبَادَاتِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
الَّذِينَ مَنَعُوا مِنْ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنَ الْخِطَابِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ. اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ تَبْلِيغِ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْعِبَادَاتِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى جَوَازِهِ، وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ، لَمْ يَخْلُ: إِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ لِذَاتِهِ، أَوْ لِمَعْنًى مِنْ خَارِجٍ، الْأَوَّلُ مُحَالٌ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ لِذَاتِهِ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَمْرٍ مِنْ خَارِجٍ فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، كَيْفَ وَإِنَّ تَأْخِيرَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَقْتَضِي التَّأْخِيرَ.
وَلِهَذَا لَوْ صَرَّحَ الشَّارِعُ بِذَلِكَ، لَمَا كَانَ مُمْتَنَعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ مَانِعَةٌ مِنَ التَّأْخِيرِ وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: الِامْتِنَاعُ مِنَ التَّأْخِيرِ إِنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ.
قَوْلُكُمْ: يَحْتَمِلُ وُجُودُ مَفْسَدَةٍ فِي التَّقْدِيمِ، وَمَصْلَحَةٍ فِي التَّأْخِيرِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
قُلْنَا: فَهَذَا كَمَا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْجَزْمُ بِامْتِنَاعِ التَّأْخِيرِ، فَلَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْجَزْمُ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُكُمْ.
وَجَوَابُ الْأَوَّلِ: أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (بَلِّغْ) أَمْرٌ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ (١) وَإِنْ سَلَّمَنَا أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، غَيْرَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ تَبْلِيغَ الْأَحْكَامِ الَّتِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا، وَإِنَّمَا هُوَ دَالٌّ عَلَى تَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ؛ إِذْ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظِ الْمُنَزَّلِ.
وَجَوَابُ الثَّانِي أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، تَسَاقَطَا، وَبَقِينَا عَلَى أَصْلِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ.
(١) الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْوُجُوبِ قَطْعًا وَلَيْسَ مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ الْأَمْرِ إِذْ مَحَلُّهُ الْأَمْرُ الْمُجَرَّدُ مِنَ الْقَرَائِنِ وَهُوَ فِي الْآيَةِ قَدِ اقْتَرَنَ بِالتَّهْدِيدِ عَلَى التَّرْكِ فِي قَوْلِهِ (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) .