للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الْقِسْمُ الْخَامِسُ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدْ أَنْشَأَ الْكَلَامَ لِبَيَانِ مَقْصُودٍ وَتَحْقِيقِ مَطْلُوبٍ ثُمَّ يَذْكُرُ فِي أَثْنَائِهِ شَيْئًا آخَرَ]

الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدْ أَنْشَأَ الْكَلَامَ لِبَيَانِ مَقْصُودٍ وَتَحْقِيقِ مَطْلُوبٍ ثُمَّ يَذْكُرُ فِي أَثْنَائِهِ شَيْئًا آخَرَ لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ كَوْنُهُ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْكَلَامِ لَا بِأَوَّلِهِ وَلَا بِآخِرِهِ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ خَبْطًا فِي اللُّغَةِ وَاضْطِرَابًا فِي الْكَلَامِ، وَذَلِكَ مِمَّا تَبْعُدُ نِسْبَتُهُ إِلَى الشَّارِعِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} .

فَالْآيَةُ إِنَّمَا سِيقَتْ لِبَيَانِ أَحْكَامِ الْجُمُعَةِ لَا لِبَيَانِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ، فَلَوْ لَمْ يُعْتَقَدْ كَوْنُ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ عِلَّةً لِلْمَنْعِ عَنِ السَّعْيِ الْوَاجِبِ إِلَى الْجُمُعَةِ لَمَا كَانَ مُرْتَبِطًا بِأَحْكَامِ الْجُمُعَةِ، وَمَا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ وَلَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لِمَا سَبَقَ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ أَمْرٍ إِلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ إِذِ النَّهْيُ طَلَبُ تَرْكِ الْفِعْلِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} طَلَبٌ لِتَرْكِ الْبَيْعِ فَكَانَ نَهْيًا.

[الْقِسْمُ السَّادِسُ أَنْ يَذْكُرَ الشَّارِعُ مَعَ الْحُكْمِ وَصْفًا مُنَاسِبًا]

كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» " فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْغَضَبِ عِلَّةً مَانِعَةً مِنَ الْقَضَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْوِيشِ الْفِكْرِ وَاضْطِرَابِ الْحَالِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: أَكْرِمِ الْعَالِمَ وَأَهِنِ الْجَاهِلَ، فَإِنَّهُ يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْهُ أَنَّ الْعِلْمَ عِلَّةٌ لِلْإِكْرَامِ وَالْجَهْلَ عِلَّةٌ لِلْإِهَانَةِ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: مَا أُلِفَ مِنْ عَادَةِ الشَّارِعِ مِنَ اعْتِبَارِ الْمُنَاسَبَاتِ دُونَ إِلْغَائِهَا، فَإِذَا قَرَنَ بِالْحُكْمِ فِي لَفْظِهِ وَصْفًا مُنَاسِبًا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اعْتِبَارُهُ لَهُ.

الثَّانِي: مَا عَلِمْنَا مِنْ حَالِ الشَّارِعِ أَنَّهُ لَا يَرِدُ بِالْحُكْمِ خَلِيًّا عَنِ الْحِكْمَةِ ; إِذِ الْأَحْكَامُ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعَبِيدِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ إِلَى جَرْيِ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ مِنْ شَرْعِ الْأَحْكَامِ (١) فَإِذَا ذَكَرَ مَعَ الْحُكْمِ وَصْفًا مُنَاسِبًا غَلَبَ


(١) رِعَايَةُ الْمَصْلَحَةِ فِي شَرْعِ الْأَحْكَامِ لَمْ يُوجِبْهَا أَحَدٌ سِوَى اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ، وَيُقَالُ أَيْضًا: إِنْ رِعَايَةَ الْمَصْلَحَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَمُوجِبُ الرَّحْمَةِ، فَكَانَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَوْلَى بِذَلِكَ فِي فِعْلِهِ وَشَرْعِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>