للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الْمَسْأَلَةُ الثَّاسعة نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ]

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ

الْمَنْقُولُ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْفُقَهَاءِ جَوَازُهُ عَقْلًا وَوُقُوعُهُ شَرْعًا.

احْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ عَلَى الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ وَالْوُقُوعِ الشَّرْعِيِّ.

أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ: فَهُوَ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} غَيْرَ أَنَّ الْكِتَابَ مَتْلُوٌّ، وَالسُّنَّةَ غَيْرُ مَتْلُوَّةٍ، وَنَسْخُ حُكْمِ أَحَدِ الْوَحْيَيْنِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا، وَلِهَذَا فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا خِطَابَ الشَّارِعِ بِجَعْلِ الْقُرْآنِ نَاسِخًا لِلسُّنَّةِ لَمَا لَزِمَ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ عَقْلًا.

وَأَمَّا الْوُقُوعُ الشَّرْعِيُّ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ:

الْأَوَّلُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا رَدَّهُ حَتَّى إِنَّهُ رَدَّ أَبَا جَنْدَلٍ وَجَمَاعَةً مِنَ الرِّجَالِ فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} » ) وَهَذَا قُرْآنٌ نَسَخَ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنَ السُّنَّةِ.

الثَّانِي: أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا مِنَ السُّنَّةِ (١) وَقَدْ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ مَعْلُومًا بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ; لِأَنَّ قَوْلَهُ {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْقُدْسِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْجِهَاتِ، وَالْمَنْسُوخُ إِنَّمَا هُوَ وُجُوبُ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ عَيْنًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنَ الْقُرْآنِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي اللَّيْلِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى الصَّائِمِ بِالسُّنَّةِ، وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} .

الرَّابِعُ: أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .

الْخَامِسُ: أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى انْجِلَاءِ الْقِتَالِ كَانَ جَائِزًا بِالسُّنَّةِ، وَلِهَذَا «قَالَ


(١) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص ١٤٩ ج٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>