للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الْمَسْأَلَةُ الثامنة تأويل بعيد لقوله وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ]

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ

وَمِنْ أَبْعَدِ التَّأْوِيلَاتِ مَا يَقُولُهُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْغَسْلُ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ (١) لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْعَمَلِ بِمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْعَطْفِ مِنَ التَّشْرِيكِ بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالْأَرْجُلِ فِي الْمَسْحِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.

فَإِنْ قِيلَ: الْعَطْفُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْوُجُوهِ وَالْيَدَيْنِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّشْرِيكِ فِي الْغَسْلِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قُدِّرَ الْمَأْمُورُ بِهِ مِنَ الْكَعْبَيْنِ كَمَا قُدِّرَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْمَسْحَ لَمَا كَانَ مُقَدَّرًا كَمَسْحِ الرَّأْسِ.

الثَّانِي: مَا وَرَدَ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِالنَّصْبِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَرْجُلَكُمْ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْأَيْدِي دُونَ الرُّءُوسِ.

وَأَمَّا الْكَسْرُ فَإِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ الْمُجَاوَرَةِ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِاسْتِتْبَاعِ الْمُجَاوِرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

كَأَنَّ ثَبِيرًا فِي عَرَانِينَ وَبْلِهِ ... كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ

كُسِرَ (مُزَمَّلِ) اسْتِتْبَاعًا لِمَا قَبْلَهُ، وَإِلَّا فَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا لِكَوْنِهِ وَصْفَ (كَبِيرٍ) وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَرْجُلَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرُّءُوسِ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعَطْفِ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي تَفَاصِيلِ حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، بَلْ فِي أَصْلِهِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَذَلِكَ مِمَّا قَدْ وَقَعَ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ، فَإِنَّ الْغَسْلَ وَالْمَسْحَ قَدِ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ إِمْسَاسُ الْعُضْوِ بِالْمَاءِ، وَإِنِ افْتَرَقَا فِي خُصُوصِ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي صِحَّةِ الْعَطْفِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَلَقَدْ رَأَيْتُكَ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا

عَطْفُ الرُّمْحِ عَلَى التَّقَلُّدِ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ كَانَ الرُّمْحُ لَا يُتَقَلَّدُ، وَإِنَّمَا يُعْتَقَلُ بِهِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَصْلِ الْحَمْلِ


(١) انْظُرْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} وَكَلَامُ شَارِحِ الطَّحَاوِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>