[الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ]
وَلَمَّا كَانَ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ قَبِيلِ النَّظَرِ فِي تَفْصِيلِ الْقِيَاسِ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَمَّا قَبْلَهُ لِكَوْنِ مَا قَبْلَهُ نَظَرًا فِي الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ لَا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ، وَالنَّظَرُ فِي الْجُمْلَةِ يَتَقَدَّمُ عَلَى النَّظَرِ فِي التَّفْصِيلِ.
وَمِثَالُهُ مَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَثَلًا: مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَا يُزِيلُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ كَالدُّهْنِ.
فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: لَا أُسَلِّمُ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّ الدُّهْنَ عِنْدِي مُزِيلٌ لِحُكْمِ النَّجَاسَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْقِطَاعِ الْمُسْتَدِلِّ بِتَوْجِيهِ مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِانْقِطَاعِهِ لِأَنَّهُ أَنْشَأَ الْكَلَامَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى حُكْمِ الْفَرْعِ لَا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، فَإِذَا مَنَعَ حُكْمَ الْأَصْلِ فَإِمَّا أَنْ يَشْرَعَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ أَوْ لَا يَشْرَعَ.
فَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَتِمَّ دَلِيلُهُ عَلَى مَقْصُودِهِ وَهُوَ انْقِطَاعٌ، وَإِنْ شَرَعَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فَقَدْ تَرَكَ مَا كَانَ بِصَدَدِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ أَوَّلًا وَعَدَلَ عَمَّا أَنْشَأَهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى حُكْمِ الْفَرْعِ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى حَكَمِ الْأَصْلِ، وَلَا مَعْنَى لِلِانْقِطَاعِ سِوَى هَذَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَنْشَأَ الدَّلِيلَ عَلَى حُكْمِ الْفَرْعِ إِنْشَاءَ مَنْ يُحَاوِلُ تَمْشِيَتَهُ وَتَقْرِيرَهُ، وَبِالدَّلَالَةِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ لَا أَنَّهُ تَارِكٌ لِمَا شَرَعَ فِيهِ أَوَّلًا وَلَا مَنْعَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِي الْأَصْلِ وَكَوْنِهَا عِلَّةً فِيهِ، وَعَلَى وُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، وَلَمْ يُمْنَعْ أَحَدٌ مِنْ مُحَاوَلَةِ تَقْرِيرِ الْقِيَاسِ عِنْدَ مَنْعِ وُجُودِ عِلَّةِ الْأَصْلِ وَمَنْعِ كَوْنِهَا عِلَّةً فِيهِ، وَمَنْعِ وَجُودِهَا فِي الْفَرْعِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَحَلِّ الْمَنْعِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْأَصْلِ ضَرُورَةَ التَّسَاوِي بَيْنَ الْكُلِّ فِي افْتِقَارِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ إِلَيْهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ خَفِيًّا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا ; فَحَكَمَ بِانْقِطَاعِهِ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَبِعَدَمِ انْقِطَاعِهِ عِنْدَ خَفَائِهِ لِظُهُورِ عُذْرِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute