للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المسألة الرابعة إِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ بِالْقِيَاسِ]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ

مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَكْثَرِ النَّاسِ جَوَازُ إِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ بِالْقِيَاسِ خِلَافًا لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَدَلِيلُ ذَلِكَ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ.

أَمَّا النَّصُّ: فَتَقْرِيرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ فِي قَوْلِهِ: " «أَجْتَهِدُ رَأْيِي» " (١) مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَهُوَ دَلِيلُ الْجَوَازِ، وَإِلَّا لَوَجَبَ التَّفْصِيلُ لِأَنَّهُ فِي مَظِنَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مُمْتَنِعٌ.

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اشْتَوَرُوا فِي حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ( «إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ; فَحُدُّوهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي» ) (٢) قَاسَهُ عَلَى حَدِّ الْمُفْتَرِي، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ نَكِيرٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّهُ مُغَلِّبٌ عَلَى الظَّنِّ، فَجَازَ إِثْبَاتُ الْحَدِّ وَالْكَفَّارَةِ بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» "، وَقِيَاسًا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ (٣) فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الدَّلَائِلِ ظَنِّيَّةً، وَالْمَسْأَلَةُ أُصُولِيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ، فَلَا يَسُوغُ التَّمَسُّكُ بِالظَّنِّ فِيهَا.

سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنَّهُ مُعَارِضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ، وَذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُدُودَ وَالْكَفَّارَاتِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُقَدَّرَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ تَعَقُّلُ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِتَقْدِيرِهَا، وَالْقِيَاسُ فَرْعُ تَعَقُّلِ عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ، فَمَا لَا تَعَقُّلَ لَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ عِلَّةٌ ; فَالْقِيَاسُ فِيهِ مُتَعَذِّرٌ كَمَا فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَأَنْصِبَةِ الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا.

الثَّانِي: أَنَّ الْحُدُودَ عُقُوبَاتٌ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتٌ فِيهَا شَائِبَةُ الْعُقُوبَةِ، وَالْقِيَاسُ


(١) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ص ٣٢ ج٤.
(٢) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص ٢٨٧ ج٣.
(٣) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص ٨٠ - ١١٧ ج٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>