[المسألة الثانية التَّعَبُّدُ الشَّرْعِيُّ بِالقياس]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ عَقْلًا اخْتَلَفُوا:
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمْ يَرِدِ التَّعَبُّدُ الشَّرْعِيُّ بِهِ، بَلْ وَرَدَ بِحَظْرِهِ كَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ وَابْنِهِ الْقَاشَانِيِّ وَالنَّهْرَوَانِيِّ (١) ، وَلَمْ يَقْضُوا بِوُقُوعِ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا كَانَتْ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُومَأً إِلَيْهَا.
وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إِلَى أَنَّ التَّعَبُّدَ الشَّرْعِيَّ بِهِ وَاقِعٌ بِدَلِيلِ السَّمْعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي وَأَوْمَأْنَا إِلَى إِبْطَالِهِ.
ثُمَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ هَلْ هُوَ قَاطِعٌ أَوْ ظَنِّيٌّ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ الْكُلُّ: إِنَّهُ قَطْعِيٌّ سِوَى أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ إِنَّهُ ظَنِّيٌّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَقَدِ احْتُجَّ عَلَى ذَلِكَ بِحُجَجٍ ضَعِيفَةٍ لَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا وَالتَّنْبِيهِ عَلَى ضَعْفِهَا ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، فَمِنْهَا كِتَابِيَّةٌ وَإِجْمَاعِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ:
أَمَّا الْكِتَابِيَّةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} .
وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ امْتِثَالُ أَمْرِهِمَا وَنَهْيِهِمَا، فَقَوْلُهُ ثَانِيًا: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وَالظَّاهِرُ مِنَ الرَّدِّ هُوَ الْقِيَاسُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِهِ اتِّبَاعَ أَوَامِرِهِمَا وَنَوَاهِيهِمَا، لَكَانَ ذَلِكَ تَكْرَارًا فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الرَّدَّ إِلَى مَا اسْتُنْبِطَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرُدُّوهُ} الْقِيَاسُ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْبَحْثَ عَنْ كَوْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مَأْمُورًا أَوْ مَنْهِيًّا، حَتَّى يَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: { (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ، فَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ بِالطَّاعَةِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّانِي بِالْبَحْثِ عَنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ أَوْ مَنْهِيٌّ أَوْ لَا فَلَا تَكْرَارَ.
(١) هُوَ أَبُو سُلَيْمَانَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ الْفَقِيهُ الظَّاهِرِيُّ وُلِدَ بِالْكُوفَةِ عَامَ ٢٠٠ أَوْ ٢٠٢ هـ وَمَاتَ بِبَغْدَادَ عَامَ ٢٧٥ هـ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ الْفَقِيهُ وَغَيْرُهُ وَالْقَاشَانِيُّ هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ.