للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الْمَسْأَلَةُ التاسعة الْحِكْمَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْحُكْمِ هَلْ هُوَ مُبْطِلٌ لِلْعِلَّةِ]

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ

اخْتَلَفُوا فِي الْكَسْرِ، وَهُوَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ عَنْ مَعْنَى الْعِلَّةِ وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْحُكْمِ، هَلْ هُوَ مُبْطِلٌ لِلْعِلَّةِ أَوْ لَا؟ .

وَصُوَرُتُهُ مَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْعَاصِي بِسَفَرِ مُسَافِرٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَرَخَّصَ فِي سَفَرِهِ كَغَيْرِ الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ، وَبَيْنَ مُنَاسِبَةِ السَّفَرِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ.

فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: مَا ذَكَرْتَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ وَهِيَ الْمَشَقَّةُ مُنْتَقِضَةٌ، فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي حَقِّ الْحَمَّالِ وَأَرْبَابِ الصَّنَائِعِ الشَّاقَّةِ فِي الْحَضَرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا رُخْصَةَ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْعِلَّةِ.

وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِي الْحِكْمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُنْضَبِطَةً بِنَفْسِهَا بَلْ بِضَابِطِهَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَخْفَى أَنَّ مِقْدَارَهَا مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ، بَلْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ فَدَأْبُ الشَّارِعِ فِيهِ رَدُّ النَّاسِ إِلَى الْمَظَانِّ الظَّاهِرَةِ الْجَلِيَّةِ دَفْعًا لِلْعُسْرِ عَنِ النَّاسِ وَالتَّخَبُّطِ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَعَلَى هَذَا فَيَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِهَا دُونَ ضَابِطِهَا، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ عِلَّةً فَلَا مَعْنَى لِإِيرَادِ النَّقْضِ عَلَيْهَا.

فَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ إِنَّمَا هُوَ الْحِكْمَةُ دُونَ ضَابِطِهَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ الْحِكْمَةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ مُسَاوِيًا لِمِقْدَارِهَا فِي صُورَةِ التَّعْلِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَزْيَدَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْمُسَاوَاةِ وَالزِّيَادَةِ فَقَدْ وُجِدَ فِي صُورَةِ النَّقْصِ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي صُورَةِ التَّعْلِيلِ، وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ مَوْجُودًا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يَتِمُّ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ مِمَّا لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيَظْهَرُ إِلْغَاءُ مَا ظُنَّ أَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّلٌ بِهِ.

قُلْنَا: الْحِكْمَةُ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ مَضْبُوطَةً إِمَّا بِنَفْسِهَا أَوْ بِضَابِطِهَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَا فُرِضَ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ مُجَرَّدَةً عَنْ ضَابِطِهَا فَامْتَنَعَ كَوْنُهَا مَقْصُودَةً، وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>