للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَلْنَذْكُرْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَهِيَ سَبْعٌ:

[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ هَلْ يُفِيدُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى

اخْتَلَفُوا فِي الْوَاحِدِ الْعَدْلِ. إِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ، هَلْ يُفِيدُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ، (١) فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ.

فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَعْنَى الظَّنِّ لَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الظَّنُّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} أَيْ: ظَنَنْتُمُوهُنَّ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ، لَكِنْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُطَّرِدٌ فِي خَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ، كَبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَخْبَارِ الْآحَادِ لَا فِي الْكُلِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ، إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ، كَالنَّظَّامِ، وَمَنْ تَابَعَهُ فِي مَقَالَتِهِ.

وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ مُطْلَقًا، لَا بِقَرِينَةٍ وَلَا بِغَيْرِ قَرِينَةٍ.

وَالْمُخْتَارُ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ، إِذَا احْتَفَّتْ بِهِ الْقَرَائِنُ.

وَيَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَادَةً دُونَ الْقَرَائِنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْتَنِعُ خَرَقَ الْعَادَةَ بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا الْعِلْمَ بِخَبَرِهِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ.

أَمَّا أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ، فَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِحُجَجٍ وَاهِيَةٍ لَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا، وَالْإِشَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ الْمُعْتَمِدُ فِي ذَلِكَ.

الْحُجَّةُ الْأُولَى: مِنَ الْحُجَجِ الْوَاهِيَةِ قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ لَأَفَادَهُ كُلُّ خَبَرِ وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ كَانَ كُلُّ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ كَذَلِكَ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا قِيَاسٌ تَمْثِيلِيٌّ، وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْعِلْمِ.

كَيْفَ وَإِنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ إِنْ قِيلَ أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ ضَرُورِيٌّ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْلُقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ كُلِّ تَوَاتُرٍ؛ لِعِلْمِهِ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ مَصْلَحَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِ، أَوْ لَا لِمَصْلَحَةٍ (٢) كَمَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ.


(١) انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ الرِّسَالَةِ لِلشَّافِعِيِّ، وَفِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنَ الْإِحْكَامِ فِي أُصُولِ الْأَحْكَامِ لِابْنِ حَزْمٍ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمَوْصِلِيُّ آخِرَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ مُخْتَصِرِ الصَّوَاعِقِ الْمُرْسَلَةِ لِابْنِ الْمُقَفَّعِ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِالسُّنَّةِ، وَإِفَادَتِهَا الْعِلْمَ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ.
(٢) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى، وَالصَّوَابُ أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ وَتَشْرِيعِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَعَظِيمِ كَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>