[الْمَسْأَلَةُ الْثالثة نَسْخِ حُكْمِ الْخِطَابِ إِذَا كَانَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ حُكْمِ الْخِطَابِ إِذَا كَانَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ كَقَوْلِهِ: " صُومُوا أَبَدًا " خِلَافًا لِشُذُوذٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ.
وَدَلِيلُ جَوَازِهِ أَنَّ الْخِطَابَ إِذَا كَانَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ بِعُمُومِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطِبُ مُرِيدًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ دُونَ الْبَعْضِ، كَمَا فِي الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ الْأَشْخَاصِ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا فَلَا يَمْتَنِعُ وُرُودُ النَّاسِخِ الْمُعَرِّفِ لِإِرَادَةِ الْمُخَاطِبِ لِذَلِكَ.
وَلَوْ فَرَضْنَا ذَلِكَ لَمَا لَزِمَ عَنْهُ الْمُحَالُ وَكَانَ جَائِزًا.
فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ التَّأْبِيدِ جَارٍ مَجْرَى التَّنْصِيصِ عَلَى كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ الزَّمَانِ بِخُصُوصِهِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ بِخُصُوصٍ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ فَكَذَلِكَ هَذَا.
وَأَيْضًا، لَوْ أُمِرْنَا بِالْعِبَادَةِ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الِاسْتِمْرَارَ، جَازَ النَّسْخُ، فَلَوْ جَازَ ذَلِكَ مَعَ التَّقْيِيدِ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ مَعْنًى.
وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ نَسْخُ مَا وَرَدَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ لَمَا بَقِيَ لَنَا طَرِيقٌ إِلَى الْعِلْمِ بِدَوَامِ الْعِبَادَةِ فِي زَمَانِ إِرَادَةِ التَّكْلِيفِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْمُخَاطِبَ إِذَا أَخْبَرَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ لَمْ يَجُزْ نَسْخُهُ، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْخَبَرِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَ التَّأْبِيدِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّنْصِيصِ عَلَى كُلِّ وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، بَلْ هُوَ فِي الْعُرْفِ قَدْ يُطْلَقُ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: لَازِمْ فُلَانًا أَبَدًا، وَفُلَانٌ أَبَدًا يُكْرِمُ الضَّيْفَ، وَأَدَامَ اللَّهُ مُلْكَ الْأَمِيرِ أَبَدًا.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّنْصِيصِ عَلَى الْأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ، فَعِنْدَنَا لَا يَمْتَنِعُ نَسْخُ حُكْمِ الْخِطَابِ، إِذَا كَانَ مُقَيَّدًا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، كَمَا إِذَا قَالَ: " صَلِّ وَقْتَ زَوَالِ الشَّمْسِ رَكْعَتَيْنِ " فَإِنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُهُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَقَبْلَهُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا.
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ فَائِدَةَ التَّأْبِيدِ تَأْكِيدُ الِاسْتِمْرَارِ، فَإِذَا وَرَدَ النَّسْخُ، كَانَتْ فَائِدَتُهُ تَأْكِيدَ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِمْرَارِ لَا نَفْسَ الِاسْتِمْرَارِ.
ثُمَّ يَلْزَمُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ