وَقَوْلُهُ: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الْكِتَابَ بَيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ إِمَّا بِدَلَائِلِ أَلْفَاظِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَإِمَّا بِوَاسِطَةِ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ أَوْ دَلَالَتِهِ عَلَى السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الدَّالَّيْنِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيَاسِ، فَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ يَكُونُ عَمَلًا بِمَا بَيَّنَهُ الْكِتَابُ لَا أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ.
كَيْفَ وَإِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ عَدَمَ اشْتِمَالِهِ عَلَى تَعْرِيفِ الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ مِنَ الْهَنْدَسِيَّةِ وَالْحِسَابِيَّةِ، بَلْ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ (١) كَمَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، وَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَالْمُفَوَّضَةِ، وَمَسَائِلِ الْعَوْلِ وَنَحْوِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُبَيَّنَةِ بِهِ لَا تَفْرِيطَ فِيهَا ; حَذَرًا مِنْ مُخَالَفَةِ عُمُومِ اللَّفْظِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ السُّنَّةِ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الرَّأْيِ الْبَاطِلِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
[المسألة الثالثة نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ هَلْ يَكْفِي ذَلِكَ فِي تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بِهَا إِلَى غَيْرِ مَحَلِّ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
إِذَا نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ، هَلْ يَكْفِي ذَلِكَ فِي تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بِهَا إِلَى غَيْرِ مَحَلِّ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ دُونَ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ بِهَا؟
اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجَعْفَرُ بْنُ مُبَشِّرٍ وَجَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ وَبَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَا يَكْفِي ذَلِكَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالنَّظَّامُ وَالْقَاشَانِيُّ وَالنَّهْرَوَانِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْكَرْخِيُّ: يَكْفِي ذَلِكَ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهَا أَيْنَ وُجِدَتْ وَإِنْ لَمْ يُتَعَبَّدْ بِالْقِيَاسِ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا عِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ وَتَرْكِ الْفِعْلِ كَانَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا كَافِيًا فِي تَحْرِيمِ الْفِعْلِ بِهَا أَيْنَ وُجِدَتْ وَإِنْ كَانَتْ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْفِعْلِ أَوْ نَدْبِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَافِيًا فِي إِيجَابِ الْفِعْلِ بِهَا وَلَا فِي نَدْبِهِ أَيْنَ وُجِدَتْ دُونَ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ ; لِأَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرِهِ لِفَقْرِهِ بِدِرْهَمٍ ; لَا يَجِبُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ، وَمَنْ أَكَلَ شَيْئًا مِنَ السُّكَّرِ لِأَنَّهُ حُلْوٌ
(١) الْقَوْلُ بِعَدَمِ تَعْرِيفِ الْقُرْآنِ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ دَعْوَى يُنَازِعُ فِيهَا الْمُخَالِفُ وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ قَدْ رَدَّهَا الْمُخَالِفُ إِلَى النُّصُوصِ أَوِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ.