[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ نَسْخِ حُكْمِ الْقِيَاس]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ
اخْتَلَفُوا فِي نَسْخِ حُكْمِ الْقِيَاسِ:
فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا كَالْحَنَابِلَةِ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْقِيَاسَ إِذَا كَانَ مُسْتَنْبَطًا مِنْ أَصْلٍ، فَالْقِيَاسُ بَاقٍ بِبَقَاءِ الْأَصْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ رَفْعُ حُكْمِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ مُطْلَقًا كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، لَكِنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الْقِيَاسِ الْمَوْجُودِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقِيَاسِ الْمَوْجُودِ بَعْدَهُ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْقِيَاسُ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ نَصَّ عَلَى أَصْلٍ كَتَنْصِيصِهِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ مُتَفَاضِلًا، وَتَعَبَّدَ النَّاسُ بِقِيَاسِ غَيْرِ الْبُرِّ عَلَى الْبُرِّ بِوَاسِطَةِ الْكَيْلِ مِثْلًا بِأَمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَضَى بِتَحْرِيمِ بَيْعِ الْأُرْزِ بِنَاءً عَلَى الْقِيَاسِ عَلَى الْبُرِّ فَلَا يَمْتَنِعُ نَسْخُهُ بِالنَّصِّ وَبِالْقِيَاسِ.
أَمَّا النَّصُّ: فَبِأَنْ يُنَصَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ بَيْعِ الْأُرْزِ وَبِنَسْخِ تَحْرِيمِهِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَبِأَنْ يُنَصَّ عَلَى إِبَاحَةِ بَيْعِ بَعْضِ الْمَأْكُولَاتِ وَيُتَعَبَّدُ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهِ مَأْكُولًا بِأَمَارَةٍ هِيَ أَقْوَى مِنَ الْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْبُرِّ هِيَ الْكَيْلُ.
وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ مَوْجُودًا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكُونَ قَدِ اجْتَهَدَ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ فَأَدَّاهُ الْقِيَاسُ إِلَى تَحْرِيمِ شَيْءٍ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنِ الْأَدِلَّةِ الْمُعَارِضَةِ وَعَدَمِ الظَّفَرِ بِهَا ثُمَّ اطَّلَعَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ مُتَقَدِّمٍ أَوْ قِيَاسٍ أَرْجَحَ مِنْ قِيَاسِهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُ حُكْمِ قِيَاسِهِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى نَسْخًا.
قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ حَيْثُ إِنَّهُ تُعُبِّدَ بِالْقِيَاسِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رُفِعَ.
وَأَمَّا مَنْ لَا يَقُولُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ بِتَعَبُّدِهِ بِالْقِيَاسِ الْأَوَّلِ، فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ مُتَحَقِّقًا، هَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فِي الْقِيَاسِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً بِنَظَرِ الْمُجْتَهِدِ.