للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَعَلَى هَذَا، فَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ كَوْنُ اسْمِ الْأَمْرِ مُتَوَاطِئًا فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ وَالْفِعْلِ، لَا أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ (١) وَلَا مَجَازٌ فِي أَحَدِهِمَا.

[الْبَحْثُ الثَّانِي فِي حَدِّ الْأَمْرِ]

وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِهِمْ لِكَلَامِ النَّفْسِ، فَذَهَبَ الْبَلْخِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ (افْعَلْ) أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ.

وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ (يَقُومُ مَقَامَهُ) أَيْ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَدْلُولِهِ، وَقَصَدَ بِذَلِكَ إِدْرَاجَ صِيغَةِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ فِي الْحَدِّ، وَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.

الْأَوَّلُ: أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ يُوجَدُ فِيمَا لَيْسَ بِأَمْرٍ بِالِاتِّفَاقِ (٢) كَالتَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} ، وَالْإِبَاحَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ، وَالْإِرْشَادِ فِي قَوْلِهِ: {فَاسْتَشْهِدُوا} ، وَالِامْتِنَانِ كَقَوْلِهِ: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} ، وَالْإِكْرَامِ كَقَوْلِهِ: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} ، وَالتَّسْخِيرِ، وَالتَّعْجِيزِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَحَامِلِ الَّتِي يَأْتِي ذِكْرُهَا.

الثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ، أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ (افْعَلْ) الْوَارِدَةُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَنَا، أَمْرًا حَقِيقَةً لِتَحَقُّقِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ شُرُوطِ الْأَمْرِ فِيهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآمِرَ لَنَا بِهَا، وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ رَسُولًا، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلرَّسُولِ غَيْرِ الْمُبَلِّغِ لِكَلَامِ الْمُرْسِلِ، لَا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآمِرَ وَالنَّاهِيَ، كَالسَّيِّدِ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ صِيغَتُهُ مَخْلُوقَةً لَهُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمْ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا (٣) .

الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ يَرِدُ مِثْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ مِنَ الْأَعْلَى نَحْوَ الْأَدْنَى وَلَا يَكُونُ أَمْرًا، بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّضَرُّعِ وَالْخُضُوعِ، وَقَدْ يَرِدُ مِنَ الْأَدْنَى نَحْوَ الْأَعْلَى إِذَا كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَلِذَلِكَ يُوصَفُ قَائِلُهَا بِالْجَهْلِ وَالْحُمْقِ بِأَمْرِهِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْهُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ، الْأَمْرُ صِيغَةُ (افْعَلْ) عَلَى تَجَرُّدِهَا مِنَ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ لَهَا عَنْ جِهَةِ الْأَمْرِ إِلَى التَّهْدِيدِ، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْمَحَامِلِ.


(١) أَيْ لَفْظِيٌّ
(٢) فَلَيْسَ التَّعْرِيفُ مَانِعًا لِدُخُولِ غَيْرِ الْمُعَرَّفِ فِيهِ
(٣) الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، هَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ أَوْ لِلْعَبْدِ

<<  <  ج: ص:  >  >>