للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الْمَسْأَلَةُ الثانية قَوْلَهُ تَعَالَى وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ.

ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ) مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَيَحْتَمِلُ مَسْحَ بَعْضِهِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَكَانَ مُجْمَلًا.

قَالُوا: وَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ» ، فَهُوَ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ.

وَاتَّفَقَ النَّافُونَ عَلَى نَفْيِ الْإِجْمَالِ، لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ بِحُكْمِ وَضْعِ اللُّغَةِ ظَاهِرٌ فِي مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَابْنِ جِنِّيٍّ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ (الْبَاءَ) فِي اللُّغَةِ أَصْلٌ فِي الْإِلْصَاقِ، كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ، وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى الْمَسْحِ وَقَرَنَتْهُ بِالرَّأْسِ، وَاسْمُ الرَّأْسِ حَقِيقَةٌ فِي كُلِّهِ لَا بَعْضِهِ، وَلِهَذَا، وَلَا يُقَالُ لِبَعْضِ الرَّأْسِ رَأْسٌ، فَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِمَسْحِ جَمِيعِهِ لُغَةً.

وَهَذَا وَإِنْ كَانَ هُوَ الْحَقَّ بِالنَّظَرِ إِلَى أَصْلِ وَضْعِ اللُّغَةِ، غَيْرَ أَنَّ عُرْفَ اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ الطَّارِئِ عَلَى الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ حَاكِمٌ عَلَيْهِ، وَالْعُرْفُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي اطِّرَادِ الِاعْتِيَادِ جَابِرٌ بِاقْتِضَاءِ إِلْصَاقِ الْمَسْحِ بِالَّلمْسِ فَقَطْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ؛ وَلِهَذَا فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ امْسَحْ يَدَكَ بِالْمِنْدِيلِ لَا يُفْهَمُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ إِلْصَاقَ يَدِهِ بِجَمِيعِ الْمِنْدِيلِ بَلْ إِنْ شَاءَ بِكُلِّهِ، وَإِنْ شَاءَ بِبَعْضِهِ.

وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: " مَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ " فَالسَّامِعُونَ يُجَوِّزُونَ أَنَّهُ مَسَحَ بِكُلِّهِ وَبِبَعْضِهِ، غَيْرَ فَاهِمِينَ لُزُومَ وُقُوعِ الْمَسْحِ بِالْكُلِّ أَوِ الْبَعْضِ، بَلْ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ " بَيْنَ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ. وَهُوَ مُطْلَقُ مَسْحٍ (١) وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْعُرْفِ.

وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ.

وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِالْإِجْمَالِ. لَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ. وَلَا بِالنَّظَرِ إِلَى عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ.


(١) يَظْهَرُ لِي فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) وَقَوْلُ الْقَائِلِ: امْسَحْ يَدكَ بِالْمِنْدِيلِ، وَمَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ، فَإِنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ بِالْخِطَابِ فِي الْآيَةِ إِلَى مَسْحِ الرَّأْسِ، وَالْعُضْوُ الْمَاسِحُ وَسِيلَةٌ، وَأَنَّ الْقَصْدَ فِي طَلَبِ مَسْحِ الْيَدِ بِالْمِنْدِيلِ وَالْإِخْبَارِ بِذَلِكَ إِلَى مَسْحِ الْيَدِ، وَالْمِنْدِيلُ وَسِيلَةٌ، فَالْمِنْدِيلُ نَظِيرُ الْعُضْوِ الْمَاسِحِ، كِلَاهُمَا آلَةٌ لِلْمَسْحِ لَمْ تُقْصَدْ بِهِ لِنَفْسِهَا، وَالْيَدُ فِي الْمِثَالَيْنِ نَظِيرُ الرَّأْسِ فِي الْآيَةِ وَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ بِالْمَسْحِ، وَكُلٌّ مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ وَعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى تَعْمِيمِهِمَا بِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>