[الْمَسْلَكُ السَّابِعُ إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ]
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ: فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً.
لَكِنِ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ قَطْعًا كَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَدُلُّ عَلَيْهَا ظَنًّا كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَبْنَاءِ زَمَانِنَا.
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلِّيَّةِ لَا قَطْعًا وَلَا ظَنًّا وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَصُورَتُهُ مَا إِذَا قِيلَ فِي مَسْأَلَةِ النَّبِيذِ مَثَلًا: (مُسْكِرٌ) فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ، وَأَثْبَتَ كَوْنَ الْمُسْكِرِ عِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ بِدَوَرَانِهِ مَعَ التَّحْرِيمِ وُجُودًا وَعَدَمًا فِي الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ إِذَا صَارَ مُسْكِرًا حُرِّمَ، وَإِنْ زَالَ الْإِسْكَارُ عَنْهُ بِأَنْ صَارَ خَلًّا فَإِنَّهُ لَا يُحَرَّمُ.
وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ إِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ بِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَهُوَ أَنْ قَالَ: حَاصِلُ الِاطِّرَادِ يَرْجِعُ إِلَى سَلَامَةِ الْعِلَّةِ عَنِ النَّقْضِ، وَسَلَامَةُ الْعِلَّةِ عَنْ مُفْسِدٍ وَاحِدٍ لَا يُوجِبُ سَلَامَتَهَا عَنْ كُلِّ مُفْسِدٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ السَّلَامَةِ عَنْ كُلِّ مُفْسِدٍ فَصِحَّةُ الشَّيْءِ لَا تَكُونُ بِسَلَامَتِهِ عَنِ الْمُفْسِدَاتِ بَلْ لِوُجُودِ الْمُصَحِّحِ، وَالْعَكْسُ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْعِلَلِ فَلَا يُؤَثِّرُ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ سُلِّمَ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى انْفِرَادِهِ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْعِلِّيَّةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ التَّأْثِيرِ بِتَقْدِيرِ الِاجْتِمَاعِ، وَدَلِيلُهُ أَجْزَاءُ الْعِلَّةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ اسْتِقْلَالِ الْمَجْمُوعِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا قَالَ: إِنَّ الصُّوَرَ الَّتِي دَارَ الْحُكْمُ فِيهَا مَعَ الْوَصْفِ وُجُودًا وَعَدَمًا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُتَمَايِزَةً بِصِفَاتٍ خَاصَّةٍ بِهَا، وَإِلَّا كَانَتْ مُتَّحِدَةً لَا مُتَعَدِّدَةً.
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلِلْخَصْمِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَصْفَ الْخَاصَّ بِكُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ فِي الْعِلَّةِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ، وَيَجْعَلَ الْعِلَّةَ فِي كُلِّ صُورَةٍ مَجْمُوعَ الْوَصْفَيْنِ، وَهُمَا: الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ وَالْوَصْفُ الْخَاصُّ بِهَا، وَهِيَ مِنَ النَّمَطِ الْأَوَّلِ ; إِذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: التَّرْجِيحُ لِلتَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ لِكَوْنِهِ مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ مَجَارِي الْحُكْمِ، فَيَكُونُ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالْمُرَكَّبِ مِنَ الْوَصْفِ الْخَاصِّ وَالْمُشْتَرَكِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute