قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، مَعَ إِمْكَانِ تَقْدِيمِهِ بِالْقَوْلِ.
قُلْنَا: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ الْحَاجَةُ قَدْ دَعَتْ إِلَى الْبَيَانِ فِي الْحَالِ، أَوْ دَعَتْ إِلَيْهِ: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَلَا مَحْذُورَ فِي التَّأْخِيرِ مَعَ حُصُولِ الْبَيَانِ بِمَا هُوَ أَدَلُّ مِنَ الْقَوْلِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ التَّأْخِيرِ عَلَى قَوْلِنَا بِجَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ.
وَبِتَقْدِيرِ امْتِنَاعِهِ فَإِنَّمَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ التَّأْخِيرُ لَا لِفَائِدَةٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِفَائِدَةٍ فَلَا.
وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَائِدَةَ فِي الْبَيَانِ بِالْفِعْلِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ.
[الْمَسْأَلَةُ الثانية وَرَدَ بَعْدَ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالَحٌ لِلْبَيَانِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
إِذَا وَرَدَ بَعْدَ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالَحٌ لِلْبَيَانِ، فَالْبَيَانُ بِمَاذَا مِنْهُمَا؟ وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَتَوَافَقَا فِي الْبَيَانِ أَوْ يَخْتَلِفَا، فَإِنْ تَوَافَقَا، فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ الْبَيَانُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ، وَالثَّانِي يَكُونُ تَأْكِيدًا إِلَّا إِذَا كَانَ دُونَ الْأَوَّلِ فِي الدَّلَالَةِ، لِاسْتِحَالَةِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الدَّلَالَةِ.
وَإِنْ جُهِلَ ذَلِكَ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الدَّلَالَةِ، أَوْ أَحَدُهُمَا أَرْجَحُ مِنَ الْآخَرِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْوَقَائِعِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَأَحَدُهُمَا هُوَ الْبَيَانُ، وَالْآخَرُ مُؤَكِّدٌ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْمَرْجُوحَ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ لِأَنَّا فَرَضْنَا تَأَخُّرَ الْمَرْجُوحِ، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُؤَكِّدًا لِلرَّاجِحِ، إِذِ الشَّيْءُ لَا يُؤَكَّدُ بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الدَّلَالَةِ، وَالْبَيَانُ حَاصِلٌ دُونَهُ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ، وَمَنْصِبُ الشَّارِعِ مُنَزَّهٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا لَا يُفِيدُ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا جَعَلْنَا الْمَرْجُوحَ مُقَدَّمًا، فَإِنَّ الْإِتْيَانَ بِالرَّاجِحِ بَعْدَهُ يَكُونُ مُفِيدًا لِلتَّأْكِيدِ، وَلَا يَكُونُ مُعَطِّلًا.
وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَتَوَافَقَا فِي الْبَيَانِ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ بَعْدَ آيَةِ الْحَجِّ قَالَ: " «مَنْ قَرَنَ حَجًّا إِلَى عُمْرَةٍ فَلْيَطُفْ طَوَافًا وَاحِدًا، وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا» ". (١)
(١) الْحَدِيثُ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ (مَنْ قَرَنَ بَيْنَ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ أَجْزَأَهُ لَهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ) وَرَمَزَ لَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرُمُوزِ الْحَسَنِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute