للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الْفَاسِقُ الْمُتَأَوِّلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ فِسْقَ نَفْسِهِ]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ

الْفَاسِقُ الْمُتَأَوِّلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ فِسْقَ نَفْسِهِ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِسْقُهُ مَظْنُونًا، أَوْ مَقْطُوعًا بِهِ، فَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا، كَفِسْقِ الْحَنَفِيِّ إِذَا شَرِبَ النَّبِيذَ، فَالْأَظْهَرُ قَبُولُ رِوَايَتِهِ وَشَهَادَتِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا شَرِبَ الْحَنَفِيُّ النَّبِيذَ أُحِدُّهُ وَأَقْبَلُ شَهَادَتَهُ.

وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ مَقْطُوعًا بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرَى الْكَذِبَ وَيَتَدَيَّنُ بِهِ، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي امْتِنَاعِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ كَالْخَطَّابِيَّةِ مِنَ الرَّافِضَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ شَهَادَةَ الزُّورِ لِمُوَافَقِيهِمْ فِي الْمَذْهَبِ.

وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَفِسْقِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ اسْتَبَاحُوا الدَّارَ، وَقَتَلُوا الْأَطْفَالَ وَالنِّسْوَانَ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ.

فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ رِوَايَتَهُ وَشَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ.

وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْجُبَّائِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى امْتِنَاعِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

وَقَدِ احْتَجَّ النَّافُونَ بِحُجَّةٍ ضَعِيفَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا، أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ الْمَفْرُوضَ، لَوْ كَانَ عَالِمًا بِفِسْقِهِ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ، فَإِذَا كَانَ جَاهِلًا بِفِسْقِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْسَ بِفَاسِقٍ، فَقَدِ انْضَمَّ إِلَى فِسْقِهِ فِسْقٌ آخَرُ وَخَطِيئَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ اعْتِقَادُهُ فِي الْفِسْقِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفِسْقٍ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ خَبَرُهُ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ فَاسِقٌ، وَكَانَ مُتَحَرِّجًا مُحْتَرِزًا فِي دِينِهِ عَنِ الْكَذِبِ وَارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ، فَكَانَ (١) إِخْبَارُهُ مُغَلِّبًا عَلَى الظَّنِّ صِدْقَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمَ أَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ فِسْقًا، فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةٍ مُبَالَاتِهِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَعَدَمِ تَحَرُّزِهِ عَنِ الْكَذِبِ فَافْتَرَقَا.

وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ النَّصُّ وَالْمَعْقُولُ:

أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} أَمْرٌ بِرَدِّ نَبَأِ الْفَاسِقِ.


(١) فَكَانَ - لَعَلَّهُ كَانَ يَحْذِفُ الْفَاءَ لِكَوْنِهِ جَوَابًا لِـ " إِذَا " الشَّرْطِيَّةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>