للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ النَّهْيَ عَنِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي الِانْتِهَاءَ عَنْهُ دَائِمًا]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ

اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي الِانْتِهَاءَ عَنْهُ دَائِمًا (١) خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّاذِّينَ.

وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: " لَا تَفْعَلْ كَذَا " وَقَدَّرْنَا نَهْيَهُ مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي أَيِّ وَقْتٍ قَدَرَ يُعَدُّ مُخَالِفًا لَنَهْيِ سَيِّدِهِ وَمُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ فِي عُرْفِ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ.

وَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا لِلتَّكْرَارِ وَالدَّوَامِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: لَا خَفَاءَ بِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ يَرِدُ وَيُرَادُ بِهِ الدَّوَامُ كَمَا فِي النَّهْيِ عَنِ الرِّبَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ يَرِدُ وَلَا يُرَادُ بِهِ الدَّوَامُ كَمَا فِي نَهْيِ الْحَائِضِ عَنِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ، وَالصُّورَتَانِ مُشْتَرِكَتَانِ فِي طَلَبِ تَرْكِ الْفِعْلِ لَا غَيْرَ، وَمُفْتَرِقَتَانِ فِي دَوَامِهِ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَعَدَمِ دَوَامِهِ فِي الْأُخْرَى.

وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ (٢) وَلَا تَجُوزُ، وَالدَّالُّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ لَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى مَا اخْتُصَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا لِلدَّوَامِ لَكَانَ عَدَمُ الدَّوَامِ فِي بَعْضِ صُوَرِ النَّهْيِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.

قُلْنَا: النَّهْيُ حَيْثُ وَرَدَ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ الدَّوَامُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِقَرِينَةٍ نَظَرًا إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ.

وَمَا قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ أَوِ التَّجَوُّزُ، قُلْنَا: وَإِنْ لَزَمَ مِنْهُ التَّجَوُّزُ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِافْتِقَارِهِ إِلَى الْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ غَيْرَ أَنَّ جَعْلَهُ حَقِيقَةً فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مِمَّا يُوجِبُ جَعْلُهُ مَجَازًا فِي الدَّوَامِ وَالتَّكْرَارِ لِاخْتِلَافِ حَقِيقَتِهِمَا.

وَلَيْسَ الْقَوْلُ بِجَعْلِهِ مَجَازًا فِي التَّكْرَارِ وَحَقِيقَةً فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، بَلْ جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي التَّكْرَارِ أَوْلَى لِإِمْكَانِ التَّجَوُّزِ بِهِ عَنِ الْبَعْضِ لِكَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا لَهُ.

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ لَمَا أَمْكَنَ التَّجَوُّزُ بِهِ عَنِ التَّكْرَارِ لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ لَهُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي أَيْضًا.


(١) الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ النَّهْيِ كَالنُّكْرَةِ بَعْدَ النَّفْيِ، فَيُفِيدُ عُمُومَ النَّهْيِ عَنِ الْفِعْلِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ
(٢) أَيْ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ لَفْظِيٍّ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاشْتِرَاكُ مَعْنَوِيًّا

<<  <  ج: ص:  >  >>