للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ (١) : إِذَا قِيلَ بِتَعَادُلِ الْأَمَارَتَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، أَوْ بِأَحَدَيْهِمَا دُونَ الْأُخْرَى، أَوْ لَا يَعْمَلَ وَلَا بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.

الْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَالثَّانِي: مُحَالٌ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَعْمَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ أَوِ الْإِبْهَامِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ فَلَا أَوْلَوِيَّةَ مَعَ التَّسَاوِي، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى امْتِنَاعِ تَخْيِيرِ الْمُكَلَّفِينَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ.

الثَّانِي: أَنَّ التَّخْيِيرَ إِبَاحَةٌ لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَهُوَ عَمَلٌ بِأَمَارَةِ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ ; لِمَا سَبَقَ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ تَخْيِيرِ الْحَاكِمِ لِلْمُتَخَاصِمِينَ، وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي لِلْعَامِّيِّ بَيْنَ الْحُكْمِ وَنَقِيضِهِ، وَأَنْ يَحْكُمَ لِزَيْدٍ بِحُكْمٍ وَلِعَمْرٍو بِنَقِيضِهِ، وَأَنْ يَحْكُمَ فِي يَوْمٍ بِحُكْمٍ وَفِي الْغَدِ بِنَقِيضِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَالثَّالِثُ أَيْضًا مُحَالٌ ; لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ (٢) ، وَلِأَنَّ وَضْعَ الْأَمَارَتَيْنِ يَكُونُ عَبَثًا، وَالْعَبَثُ فِي تَصَرُّفَاتِ الشَّارِعِ مُمْتَنِعٌ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوَاقِعَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ،. . . وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ اخْتِيَارُكُمْ، فَلَوْ تَعَادَلَتِ الْأَمَارَتَانِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ التَّضْلِيلُ وَالْحَيْرَةُ فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى الشَّارِعِ الْحَكِيمِ.

وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأَوْلَى بِمَنْعِ الْحَصْرِ فِيمَا ذَكَرُوهُ ; إِذْ قَدْ أَمْكَنَ قِسْمٌ ثَالِثٌ (٣) وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَجْمُوعِهِمَا بِأَنْ يَكُونَا كَالدَّلِيلِ الْوَاحِدِ، وَمُقْتَضَاهُمَا الْوَقْفُ أَوِ التَّخْيِيرُ.


(١) يُمْكِنُ تَصْوِيرُ لَوَازِمِ الْأَمَارَتَيْنِ فِي غَيْرِ الْعَمَلِ بِهِمَا فَيُقَالُ: إِذَا تَقَابَلَتِ الْأَمَارَتَانِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَإِمَّا أَنْ يُطَابِقَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْوَاقِعَ وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُطَابِقَ الْوَاقِعَ شَيْءٌ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ النَّقِيضَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يُطَابِقَ إِحْدَاهُمَا الْوَاقِعَ دُونَ الْأُخْرَى، فَمَا وَافَقَهُ هُوَ الْحَقُّ الْمُعْتَبَرُ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ رَاجِحًا، وَمَا سِوَاهُ لَغْوٌ بَاطِلٌ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مَرْجُوحًا، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ التَّعَادُلِ. وَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ تَعَادُلُهُمَا بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِمَا فِي نَفْسَيْهِمَا لِكَمَالِ عِلْمِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ. أَمَّا تَعَادُلُهُمَا بِاعْتِبَارِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فَجَائِزٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
(٢) الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ: لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ النَّقِيضَيْنِ ; لِأَنَّ الْقِسْمَ الثَّالِثَ فِيهِ سَلْبُ الْعَمَلِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.
(٣) تَقَدَّمَ أَنَّ الدَّلِيلَ اشْتَمَلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ إِجْمَالًا، فَالْمُوَافِقُ لِذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: أَمْكَنَ قِسْمٌ رَابِعٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>