للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا (الْمُفْتِي) فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَأَدِلَّةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ، وَأَنَّ لَهُ صَانِعًا، وَأَنَّهُ وَاحِدٌ مُتَّصِفٌ بِمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْخَلَلِ، وَأَنَّهُ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فِي رِسَالَتِهِ وَتَبْلِيغِهِ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ عَارِفًا بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَأَنْوَاعِهَا وَاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا فِي جِهَاتِ دَلَالَاتِهَا، وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْهَا، وَالْمُتَعَارِضَاتِ، وَجِهَاتِ التَّرْجِيحِ فِيهَا، وَكَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا عَلَى مَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ، وَأَنْ يَكُونَ عَدْلًا ثِقَةً حَتَّى يُوثَقَ بِهِ فِيمَا يُخْبِرُ عَنْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِلْإِرْشَادِ وَهِدَايَةِ الْعَامَّةِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا بِجِهَةِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، مُتَّصِفًا بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ؛ لِيَرْغَبَ الْمُسْتَمِعُ فِي قَبُولِ مَا يَقُولُ، كَافًّا نَفْسَهُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، حَذِرًا مِنَ التَّنْفِيرِ عَنْهُ.

وَأَمَّا (الْمُسْتَفْتِي) فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا قَدْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.

فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدِ اجْتَهَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ اتِّبَاعِهِ لِغَيْرِهِ فِي خِلَافِ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اجْتَهَدَ فِيهَا فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ اتِّبَاعِهِ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ بِجِهَةِ التَّفْصِيلِ وَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ. (١) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامِّيًّا صِرْفًا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَتَرَقَّى بِهَا إِلَى رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ تَرَقَّى عَنْ رُتْبَةِ الْعَامَّةِ بِتَحْصِيلِ بَعْضِ الْعُلُومِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ.

فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ اتِّبَاعِهِ لِقَوْلِ الْمُفْتِي، وَالصَّحِيحُ أَنَّ وَظِيفَتَهُ اتِّبَاعُ قَوْلِ الْمُفْتِي عَلَى مَا يَأْتِي، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَقَدْ تُرُدِّدَ أَيْضًا فِيهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَامِّيِّ.

وَأَمَّا مَا فِيهِ (الِاسْتِفْتَاءُ) فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَضَايَا الْعِلْمِيَّةِ، أَوِ الظَّنِّيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدِ اخْتُلِفَ أَيْضًا فِي جَوَازِ اتِّبَاعِ قَوْلِ الْغَيْرِ فِيهِ. وَالْحَقُّ امْتِنَاعُهُ كَمَا يَأْتِي، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَهُوَ الْمَخْصُوصُ بِجَوَازِ الِاسْتِفْتَاءِ عَنْهُ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِ قَوْلِ الْمُفْتِي.

وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْمَسَائِلِ الْمُتَشَعِّبَةِ عَنْهُ وَهِيَ ثَمَانٌ:


(١) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ التَّاسِعَةَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>