للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلْنَفْرِضِ الْكَلَامَ فِي الطَّرَفَيْنِ: أَمَّا الطَّرَفُ الْأَوَّلُ وَهُوَ امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُسْتَحِيلِ لِذَاتِهِ، فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ التَّكْلِيفَ طَلَبُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ، وَالطَّلَبُ يَسْتَدْعِي مَطْلُوبًا مُتَصَوَّرًا فِي نَفْسِ الطَّالِبِ، فَإِنَّ طَلَبَ مَا لَا تَصَوُّرَ لَهُ فِي النَّفْسِ مُحَالٌ، وَالْمُسْتَحِيلُ لِذَاتِهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مَعًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَنَحْوِهِ، لَا تَصَوُّرَ لَهُ فِي النَّفْسِ. وَلَوْ تُصُوِّرَ فِي النَّفْسِ لَمَا كَانَ وُقُوعُهُ فِي الْخَارِجِ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ، وَكَمَا يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فِي طَرَفِ الْوُجُودِ فَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فِي طَرَفِ السَّلْبِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ كَالتَّكْلِيفِ بِسَلْبِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ مَعًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ; لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ لِذَاتَيْهِمَا، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ تَوَسَّطَ مَزْرَعَةً مَغْصُوبَةً فَلَا يُقَالُ لَهُ: لَا تَمْكُثْ وَلَا تَخْرُجْ (١) ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو هَاشِمٍ. وَإِنْ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكْثِ وَالْخُرُوجِ إِفْسَادُ زَرْعِ الْغَيْرِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ التَّكْلِيفُ بِالْخُرُوجِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْلِيلِ الضَّرَرِ وَتَكْثِيرِهِ فِي الْمُكْثِ، كَمَا يُكَلَّفُ الْمُولِجُ فِي الْفَرْجِ الْحَرَامِ بِالنَّزْعِ وَإِنْ كَانَ بِهِ مَاسًّا لِلْفَرْجِ الْمُحَرَّمِ ; لِأَنَّ ارْتِكَابَ أَدْنَى الضَّرَرَيْنِ يَصِيرُ وَاجِبًا نَظَرًا إِلَى رَفْعِ أَعْلَاهُمَا، كَإِيجَابِ شُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى مَنْ غُصَّ بِلُقْمَةٍ وَنَحْوِهِ. وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِمَا يُفْسِدُهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ لَا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْخُرُوجِ، كَمَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُضْطَرِّ فِي الْمَخْمَصَةِ بِمَا يُتْلِفُهُ بِالْأَكْلِ وَإِنْ كَانَ الْأَكْلُ وَاجِبًا، وَإِنْ قُدِّرَ انْتِفَاءُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا سَقَطَ إِنْسَانٌ مِنْ شَاهِقٍ عَلَى صَدْرِ صَبِيٍّ مَحْفُوفٍ بِصِبْيَانٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنِ اسْتَمَرَّ قَتَلَ مَنْ تَحْتَهُ وَإِنِ انْتَقَلَ قَتَلَ مَنْ يَلِيهِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا، أَوْ يَخْلُو مِثْلُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ عَنْ حُكْمِ الشَّارِعِ (٢) ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَكْلِيفِهِ طَلَبَ مَا لَا تَصَوُّرَ لَهُ فِي نَفْسِ الطَّالِبِ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ.

وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ مُحَالًا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُمْكِنًا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ، فَكَانَ مُتَصَوَّرًا فِي نَفْسِ الطَّالِبِ وَهُوَ وَاضِحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ.


(١) رَاجِعٌ لِمَدْخُولِ النَّفْيِ، لَا لِلنَّفْيِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ أَبِي هَاشِمٍ ص ٧٤.
(٢) فَرَضَ الْمُؤَلِّفُ كَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَبَقَهُ سُقُوطَ إِنْسَانٍ مِنْ شَاهِقٍ عَلَى الصَّدْرِ خَاصَّةً مِنْ صَغِيرٍ لَا كَبِيرٍ، وَقَدَّرَ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوفًا بِصِبْيَانٍ خَاصَّةً حَتَّى لَا تَكُونَ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى التَّحَمُّلِ، ثُمَّ قَدَّرَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُمْ فَرَاغٌ يَتَمَكَّنُ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَا يَكُونُ هُنَاكَ مَنْ يُنْقِذُ الْمَوْقِفَ، وَهَذَا فَرْضٌ لَا يَكَادُ يُوجَدُ بِالْهَيْئَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَمَا إِخَالُهُ وُجِدَ فِيمَا مَضَى، فَهُوَ مُسْتَنْكَرٌ، وَأَنْكَرُ مِنْهُ قَوْلُهُ بِاحْتِمَالِ خُلُوِّ مَا قَدْ يَكُونُ وَاقِعَةً فِي ظَنِّهِ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>