مِنْ ذَلِكَ نِسْبَةُ الْأُمَّةِ إِلَى الْخَطَأِ، أَنْ لَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ مُعَيَّنًا وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي (١) ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا فَالتَّخْطِئَةُ تَكُونُ مُمْتَنِعَةٌ.
وَاحْتَجَّ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَدْ أَجْمَعَتْ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إِحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ ; لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُوجِبُ الْأَخْذَ بِقَوْلِهَا أَوْ بِقَوْلِ مُخَالِفِهَا، وَيَحْرُمُ الْأَخْذُ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَصْمَ إِنَّمَا يُسَلِّمُ إِيجَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْأَخْذَ بِقَوْلِهَا أَوْ قَوْلِ مُخَالِفِهَا بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ اجْتِهَادُ الْغَيْرِ قَدْ يُفْضِي إِلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ.
وَالْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ مِمَّا يَرْفَعُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلَانِ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ، فَإِنَّهُ إِذَا اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا امْتِنَاعُ الرَّدِّ، وَالرَّدُّ مَعَ الْعَقْرِ فَالْقَوْلَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى امْتِنَاعِ الرَّدِّ مَجَّانًا، فَالْقَوْلُ بِهِ يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ السَّابِقِ.
وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ، فَإِنَّهُ إِذَا اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا: اسْتِقْلَالُهُ بِالْمِيرَاثِ وَمُقَاسَمَتُهُ لِلْأَخِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنَّ لِلْجَدِّ قِسْطًا مِنَ الْمَالِ، فَالْقَوْلُ الْحَادِثُ أَنَّهُ لَا يَرِثُ شَيْئًا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ.
وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ إِذَا اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الطَّهَارَاتِ وَعَلَى اعْتِبَارِهَا فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْقَوْلَانِ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِي الْبَعْضِ، فَالْقَوْلُ الْمُحْدَثُ النَّافِي لِاعْتِبَارِهَا مُطْلَقًا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ السَّابِقِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ لَا يَرْفَعُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلَانِ، بَلْ وَافَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مِنْ وَجْهٍ وَخَالَفَهُ مِنْ وَجْهٍ، فَهُوَ جَائِزٌ إِذْ لَيْسَ فِيهِ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ.
وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِاعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الطَّهَارَاتِ، وَقَالَ الْبَعْضُ بِنَفْيِ اعْتِبَارِهَا فِي جَمِيعِ الطَّهَارَاتِ، فَالْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ اعْتِبَارُهَا فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لَا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ خَرْقَ الْإِجْمَاعِ إِنَّمَا هُوَ الْقَوْلُ بِمَا
(١) سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْبَابِ الْأَوَّلِ فِي الْمُجْتَهِدِينَ مَعَ التَّعْلِيقِ عَلَيْهِ، وَبَيَانِ مَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ مَذْهَبِ الْمُصَوِّبَةِ وَالْمُخَطِّئَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute