للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّمَا اخْتَصَّ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ بِالِاحْتِجَاجِ بِهِ لِلْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، دُونَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، كَمَا سَبَقَ بِخِلَافِ التَّوَاتُرِ.

وَأَمَّا أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا الْعِلْمُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّصَارَى مِنْ قَتْلِ الْمَسِيحِ وَصَلْبِهِ وَكَلِمَةِ التَّثْلِيثِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُحَالًا عَلَى عَدَمِ (١) شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ التَّوَاتُرِ، وَهُوَ إِمَّا اخْتِلَالُ اسْتِوَاءِ طَرَفَيِ الْخَبَرِ وَوَسَطِهِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الشُّرُوطِ قَبْلُ، أَوْ لِأَنَّهُمْ مَا سَمِعُوا كَلِمَةَ التَّثْلِيثِ صَرِيحًا، بَلْ سَمِعُوا كَلِمَةً مُوهِمَةً لِذَلِكَ (٢) فَنَقَلُوا التَّثْلِيثَ، وَيَجِبُ اعْتِقَادُ ذَلِكَ نَفْيًا لِلْكُفْرِ عَنِ الْمَسِيحِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} أَوْ لِأَنَّ الْمَسِيحَ شُبِّهَ لَهُمْ، فَنَقَلُوا قَتْلَهُ وَصَلْبَهُ، وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْغَلَطُ فِيهِ غَيْرَ مُعْتَادٍ إِذَا وَقَعَ فِي زَمَانِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ، وَهُوَ زَمَانُ النُّبُوَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فِي غَيْرِ زَمَانِهِ. وَيَجِبُ اعْتِقَادُ ذَلِكَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} .

فَإِنْ قِيلَ: فَخَرْقُ الْعَوَائِدِ جَائِزٌ فِي غَيْرِ زَمَانِ النُّبُوَّةِ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، فَلْيَجُزْ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ عَنِ الْمُحَسَّاتِ وَوُقُوعِ الْغَلَطِ فِيهِ.

قُلْنَا: إِنْ حَصَلَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، عَلِمْنَا اسْتِحَالَةَ الْغَلَطِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا الْعِلْمُ بِهِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ التَّوَاتُرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الشَّرْطُ مُعَيَّنًا عِنْدَنَا (٣) .

الرَّابِعُ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَكُونُوا مَحْمُولِينَ عَلَى أَخْبَارِهِمْ بِالسَّيْفِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُمْ إِنْ حُمِلُوا عَلَى الصِّدْقِ لَمْ يَمْتَنِعْ حُصُولُ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِمْ، كَمَا لَوْ لَمْ يُحْمَلُوا عَلَيْهِ.

وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ حَمَلَ الْمَلِكُ أَهْلَ مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ مُحَسٍّ، وَجَدْنَا أَنْفُسَنَا عَالِمَةً بِخَبَرِهِمْ حَسَبَ عِلْمِنَا بِخَبَرِهِمْ مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ، وَإِنْ حَمَلُوا عَلَى الْكَذِبِ، فَيَمْتَنِعُ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ، لِفَوَاتِ شَرْطٍ، وَهُوَ إِخْبَارُهُمْ عَنْ مَعْلُومٍ مُحَسٍّ.


(١) أَيْ: رَاجِعًا إِلَى عَدَمِ شَرْطٍ.
(٢) الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ كَلِمَةً تَوَهَّمُوا مِنْهَا ذَلِكَ.
(٣) هَذَا الْجَوَابُ لَا يَصْلُحُ ضَابِطًا وَلَا مَقْنَعَ فِيهِ لِلْخَصْمِ، بَلْ يَفْتَحُ بَابَ الْفَوْضَى، وَالتَّطَاوُلِ عَلَى النُّصُوصِ، وَرَدَّهَا بِدَعْوَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا، وَخَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ الْأَصْلُ الْبَقَاءُ مَعَ مَا شُوهِدَ وَمُنِعَ حَمْلُهُ عَلَى الْغَلَطِ لِشُبْهَةٍ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ يَخْرُجُ عَنِ الْأَصْلِ كَمَا مَرَّ فِي قِصَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>