للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ اتِّفَاقَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ عَلَى كِتْمَانِ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنَ الْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ.

قَوْلُهُمْ ذَلِكَ: إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ لَمْ يُوجَدِ الدَّاعِي إِلَى الْكِتْمَانِ.

قُلْنَا: وَالْكَلَامُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَادَةَ أَيْضًا تُحِيلُ اشْتِرَاكَ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ فِي الدَّاعِي إِلَى الْكِتْمَانِ، كَمَا يَسْتَحِيلُ اشْتِرَاكُهُمْ فِي الدَّاعِي إِلَى الْكَذِبِ، وَإِلَى أَكْلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِشْهَادِ.

أَمَّا كَلَامُ عِيسَى فِي الْمَهْدِ، فَإِنَّمَا تَوَلَّى نَقْلَهُ الْآحَادُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ إِلَّا بِحَضْرَةِ نَفَرٍ يَسِيرٍ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَمْرُهُ قَدْ ظَهَرَ، وَلَا شَأْنُهُ قَدِ اشْتُهِرَ، وَلَا عُرِفَ بِرِسَالَةٍ وَلَا نُبُوَّةٍ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، فَإِنَّهُ كَانَ وَقْتَ اشْتِهَارِهِ وَدَعْوَاهُ الرِّسَالَةِ، مُسْتَدِلًّا بِذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ، وَتَطَلُّعِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَامْتِدَادِ الْأَعْيُنِ إِلَى مَا يَدَّعِيهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِ.

وَأَمَّا أَعْلَامُ شُعَيْبٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّمَا لَمْ يُنْقُلْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْعُوا حَتَّى يَسْتَدِلُّوا عَلَيْهَا بِالْمُعْجِزَاتِ (١) ، وَلَا كَانَ لَهُمْ شَرِيعَةٌ انْفَرَدُوا بِهَا، بَلْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ، كَدَعْوَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَآحَادِ الْعُلَمَاءِ.

وَأَمَّا نَقْلُ بَاقِي مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ غَيْرِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّمَا تَوَلَّاهُ الْآحَادُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ، بَلْ إِنَّمَا جَرَى مَا جَرَى مِنْهُمْ بِحُضُورِ طَائِفَةٍ يَسِيرَةٍ، وَلَا سِيَّمَا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنَ الْآيَاتِ اللَّيْلِيَّةِ وَقَعَتْ، وَالنَّاسُ بَيْنَ نَائِمٍ وَغَافِلٍ فِي لَمْحِ الْبَصَرِ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَاهُمْ إِلَى رُؤْيَتِهِ وَلَا نَبَّهَهُمْ عَلَى


(١) انْظُرْ هَذِهِ الدَّعْوَى مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) عَطْفًا عَلَى مَعْمُولَيِ الْإِرْسَالِ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (لَقَدْ أَرْسَلَنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) وَعَطْفًا عَلَى مَعْمُولَيِ الْإِرْسَالِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ: (وَلَقَدْ أَرْسَلَنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) وَانْظُرْهَا أَيْضًا مَعَ قِصَّةِ شُعَيْبٍ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَفِيهَا: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْكِفَايَةَ فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَلَوْ أَجَابَ بِأَنَّهَا لَمْ تُنْقُلِ اكْتِفَاءً بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ الصَّادِقِ، وَلِلْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ بِرِسَالَتِهِ لَكَانَ أَبْعَدَ لَهُ عَنِ الْمَزَالِقِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>