للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشَّرْعِيَّاتِ (١) .

سَلَّمْنَا عَدَمَ الِانْتِقَاضِ، لَكِنْ غَايَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ أَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِقِيَاسٍ ظَنِّيٍّ فِي إِفَادَةِ كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً فِي الشَّرْعِيَّاتِ مَعَ كَوْنِهِ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ التَّعَبُّدُ فِي إِثْبَاتِ مِثْلِ ذَلِكَ بِالطُّرُقِ الْيَقِينِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ (٢) .

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: صِدْقُ الْوَاحِدِ فِي خَبَرِهِ مُمْكِنٌ، فَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، لَكُنَّا تَارِكِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ الِاحْتِيَاطُ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: صَدَقَ الرَّاوِي، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا وَرَاجِحًا، فَلِمَ قُلْتُمْ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَالِاحْتِيَاطِ (٣) بِالْأَخْذِ بِقَوْلِهِ.

وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا، وَلَكِنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ شَاهِدٍ بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا شَاهِدَ لَهُ سِوَى خَبَرِ التَّوَاتُرِ (٤) وَقَوْلِ الْوَاحِدِ فِي الْفَتْوَى وَالشَّهَادَةِ.

وَلَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِفَادَتِهِ لِلْوُجُوبِ إِفَادَةُ الْخَبَرِ الظَّنِّيِّ لَهُ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى الثَّانِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ مَعْلُومَةٌ، وَهِيَ الْأَصْلُ.

وَغَايَةُ قَوْلِ الشَّاهِدِ وَالْمُفْتِي، إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ مُخَالَفَةُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِالنَّظَرِ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الشَّاهِدِ وَالْمُفْتِي مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِالنَّظَرِ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُخَالِفِ لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، بِالنَّظَرِ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ الْقِيَاسِ، فَغَايَتُهُ أَنَّهُ مُفِيدٌ لِظَنِّ الْإِلْحَاقِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إِثْبَاتِ الْأُصُولِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي


(١) إِنْ أَرَادَ أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ أَوِ الصَّبِيِّ بِمُجَرَّدِهِ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، فَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَالشَّرْعِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِمَا احْتَفَّ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْتَزَمْنَا الْعَمَلَ، لَكِنْ لَمَّا احْتَفَّ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَعَلَيْهِ لَا يَرِدُ خَبَرُهُمَا نَقْضًا.
(٢) هَذِهِ دَعْوَى خَالَفَهَا الْأُصُولِيُّونَ أَنْفُسُهُمْ، انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص ٣٦ - ٤٧ ج ٢.
(٣) جَوَابٌ عَنْ كَلَامٍ مُضْمَرٍ، فُهِمَ مِنْ آخِرِ الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ تَقْدِيرُهُ؛ عَمِلْنَا بِهِ لِلِاحْتِيَاطِ.
(٤) صَدَقَ الرَّاوِي فِي خَبَرِهِ إِنْ كَانَ رَاجِحًا لَمْ يَحْتَجْ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ إِلَى شَاهِدٍ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَا يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، وَلَوِ احْتَاجَ إِلَى شَاهِدِ الِاعْتِبَارِ لَمَا تَوَقَّفَ عَلَى الْمُتَوَاتِرِ وَقَوْلِ الْمُفْتِي وَالشَّاهِدِ، بَلْ تَكْفِي أَخْبَارُ آحَادٍ أُخْرَى وَقَرَائِنُ أَحْوَالٍ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قِيَاسِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَبِتَقْدِيرِ الْحَاجَةِ إِلَى الْقِيَاسِ فَقِيَاسُهُ عَلَى الْمُتَوَاتِرِ صَحِيحٌ؛ حَيْثُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِفَادَةُ الْمُتَوَاتِرِ لِلْعِلْمِ وَالْآحَادِ لِلظَّنِّ فَارِقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَإِنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً إِلَّا أَنَّ اسْتِمْرَارَهَا مَظْنُونٌ فَكَيْفَ فِي رَفْعِهِ الدَّلِيلَ الظَّنِّيَّ كَالْعِلْمِيِّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>