للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الْعَدَدَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا دُونَ ذَلِكَ (١) .

وَبِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ مَا دُونَ ذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى الْكِتَابَ الْعَزِيزَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (٢) وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ كُلَّ مَا أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ حَتَّى السُّنَّةِ، فَغَايَةُ التَّهْدِيدِ عَلَى كِتْمَانِ ذَلِكَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ إِظْهَارِ مَا سُمِعَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ.

وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قَبُولِهِ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ عَلَى لِسَانِ الْآحَادِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ يَجِبُ عَلَى الْفَاسِقِ إِظْهَارُ مَا سَمِعَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَى سَامِعِهِ قَبُولُهُ (٣) .

وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْإِظْهَارِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ، حَتَّى يَتَأَلَّفَ مِنْ خَبَرِ الْمَجْمُوعِ التَّوَاتُرُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ (٤) .

وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَدَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ظَنِّيَّةٌ، فَلَا تَكُونُ حُجَّةً فِي الْأُصُولِ لِمَا سَبَقَ (٥) .

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أَمْرٌ بِسُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ؛ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ.

وَسُؤَالُ الْمُجْتَهِدِ لِغَيْرِهِ


(١) يُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ حَمْلًا لِاسْمِ الْمَوْصُولِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْعُمُومِ.
(٢) إِنْ دَخَلَتِ السُّنَّةُ فِي عُمُومِ الْمَنْزِلِ لَفْظًا فَبِهَا، وَإِلَّا فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ إِذِ الْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ، فَيَشْمَلُ الْوَعِيدَ مَنْ كَتَمَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ.
(٣) إِذَا حَرُمَ الْكِتْمَانُ وَجَبَ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ الْوَحْيُ قَبُولُهُ اعْتِقَادًا لِتَشْرِيعِهِ، وَعَمَلًا بِمُوجِبِهِ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ إِبَاحَةٍ إِلَى آخِرِهِ، وَإِنَّمَا تَخَلَّفَ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ لِفَقْدِ شَرْطِ الْقَبُولِ، لَا لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِ وُجُوبِ الْبَلَاغِ لَهُ، وَعَلَى الْفَاسِقِ تَأْهِيلُ نَفْسِهِ بِالتَّوْبَةِ لِيَلْزَمَ قَبُولُ بَلَاغِهِ.
(٤) الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْبَلَاغِ أَنْ يَكُونَ لِإِبْرَاءِ الذِّمَّةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِتَقْوِيَةِ خَبَرٍ بِمَا انْضَمَّ إِلَيْهِ، فَلَا يَرِدُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ.
(٥) سَبَقَ أَيْضًا مَا فِيهِ تَعْلِيقًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>