للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا «بَاعَ مُعَاوِيَةُ شَيْئًا مِنْ أَوَانِي ذَهَبٍ وَوَرَقٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ» ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: لَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ مُعَاوِيَةَ، أُخْبِرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُخْبِرُنِي عَنْ رَأْيِهِ، لَا أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ أَبَدًا.

وَمِنْ ذَلِكَ عَمِلَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مِنْ قَوْلِهِ: " «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» "، وَمِنْ قَوْلِهِ: " «الْأَنْبِيَاءُ يُدْفَنُونَ حَيْثُ يَمُوتُونَ» "، وَمِنْ قَوْلِهِ: " «نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» ".

وَعَمَلُهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ فِي الرُّجُوعِ عَنْ سُقُوطِ فَرْضِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ: «فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْتَسَلْنَا» .

وَعَمِلَ جَمِيعُهُمْ بِخَبَرِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي الْمُخَابَرَةِ، وَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَّةً لَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى رَوَى لَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ» فَانْتَهَيْنَا (١) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا تُحْصَى عَدَدًا، وَكَانَ ذَلِكَ شَائِعًا ذَائِعًا فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.

وَعَلَى هَذَا جَرَتَ سُنَّةُ التَّابِعِينَ، كَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَطَاوُسٍ وَعَطَاءِ بْنِ مُجَاهِدٍ (٢) وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَفُقَهَاءِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمِصْرَيْنِ (يَعْنِي الْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ) إِلَى حِينِ ظُهُورِ الْمُخَالِفِينَ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةَ أَخْبَارِ آحَادٍ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهَا حُجَّةً، وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ.


(١) أَشَارَ الْآمِدِيُّ كَكَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ إِلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا السَّلَفُ، وَرَجَعُوا إِلَيْهَا فِي الْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَذْكُرْ نَصَّهَا خَشْيَةَ الطُّولِ، فَمَنْ أَرَادَ نُصُوصَهَا مَعَ أَسَانِيدِهَا فَلْيَرْجِعْ إِلَى الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ الرِّسَالَةِ لِلشَّافِعِيِّ، وَالْكُتُبِ السِّتَّةِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ أَيْضًا صَحِيحُهَا مِنْ سَقِيمِهَا.
(٢) طَاوُسٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ الْيَمَانِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُمَيْدِيُّ الْجُنْدِيُّ، وَقِيلَ اسْمُهُ ذَكْوَانُ، وَطَاوُسٌ لَقَبٌ، مَاتَ حَوَالَيْ ١٠٦ هـ، وَعَطَاءٌ هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ الْقُرَشِيُّ، وَمُجَاهِدٌ هُوَ ابْنُ جَبْرٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>