للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَنَهْيًا وَخَبَرًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، بِسَبَبِ اخْتِلَافِ تَعَلُّقَاتِهِ، وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (١) فِي (أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ) فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ قِسْمًا مِنْ أَقْسَامِهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَمْرِ عَلَى الْفِعْلِ، هَلْ هُوَ حَقِيقَةً أَوْ لَا؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الشَّيْءِ وَالصِّفَةِ، وَبَيْنَ جُمْلَةِ الشَّأْنِ وَالطَّرَائِقِ، وَوَافَقَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي نَفْسِ الْفِعْلِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَيْءٌ.

وَهَا نَحْنُ نَذْكُرُ حُجَجَ كُلِّ فَرِيقٍ وَنُنَبِّهُ عَلَى مَا فِيهَا، وَنَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، أَمَّا حُجَّةُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ (هَذَا أَمْرٌ) لَمْ يَدْرِ السَّامِعُ مُرَادَهُ مِنْ قَوْلِهِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِكَوْنِهِ مُصَادَرًا (٢) بِدَعْوَى التَّرَدُّدِ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَمْرِ، وَلَا يَخْفَى ظُهُورُ الْمَنْعِ مِنْ مُدَّعِي الْحَقِيقَةِ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَأَنَّهُ مَهْمَا أَطْلَقَ اسْمَ الْأَمْرِ عِنْدَهُ كَانَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى فَهْمِهِ الْقَوْلَ الْمَخْصُوصَ، وَأَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ وَلَا يَخْفَى امْتِنَاعُ تَقْرِيرِ التَّرَدُّدِ مَعَ هَذَا الْمَنْعِ.

وَأَمَّا حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِهِ مَجَازًا فِي الْفِعْلِ فَكَثِيرَةٌ.

الْأُولَى مِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ مَعَ كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْقَوْلِ لَزِمَ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، لِكَوْنِهِ مُخِلًّا بِالتَّفَاهُمِ لِاحْتِيَاجِهِ فِي فَهْمِ الْمَدْلُولِ الْمُعَيَّنِ مِنْهُ إِلَى قَرِينَةٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ خَفَائِهَا، لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ.

الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ لَاطَّرَدَ فِي كُلِّ فِعْلٍ، إِذْ هُوَ لَازِمُ الْحَقِيقَةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعَالِمِ عَلَى مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ حَقِيقَةً، اطَّرَدَ فِي كُلِّ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} مَجَازًا عَنْ أَهْلِهَا، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُجَاوَرَةِ، لَمْ يَصِحَّ التَّجَوُّزُ بِلَفْظِ السُّؤَالِ لِلْبِسَاطِ وَالْكُوزِ عَنْ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُلَازَمَةُ بَيْنَهُمَا أَشَدَّ، وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، إِذْ لَا يُقَالُ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَمْرٌ.

الثَّالِثَةُ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةٌ فِي الْفِعْلِ، لَاشْتُقَّ لِمَنْ قَامَ بِهِ مِنْهُ اسْمُ الْأَمْرِ، كَمَا فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، إِذْ هُوَ الْأَصْلُ إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ


(١) سَبَقَ أَيْضًا بَيَانُ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ تَعْلِيقًا ص ١٥٣ ج ١
(٢) الْمُصَادَرَةُ - هِيَ أَخْذُ الدَّعْوَى فِي الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الدَّوْرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>