للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (١) فَلَا حُجَّةَ فِيهِ أَيْضًا، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} إِنَّمَا كَانَ مَحْمُولًا عَلَى وُجُوبِ إِجَابَةِ النِّدَاءِ، تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِرَسُولِهِ فِي إِجَابَةِ دُعَائِهِ، وَنَفْيًا لِلْإِهَانَةِ عَنْهُ وَالتَّحْقِيرِ لَهُ، بِالْإِعْرَاضِ عَنْ إِجَابَةِ دُعَائِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ هَضْمِهِ فِي النُّفُوسِ، وَإِفْضَاءِ ذَلِكَ إِلَى الْإِخْلَالِ بِمَقْصُودِ الْبِعْثَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ صَرْفُ الْأَمْرِ إِلَى الْوُجُوبِ بِقَرِينَةٍ.

وَأَمَّا خَبَرُ الْحَجِّ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ» " لَيْسَ أَمْرًا لِيَكُونَ لِلْوُجُوبِ، بَلْ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فَإِنَّهُ مُقْتَضٍ لِلْوُجُوبِ، غَيْرَ أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ التَّكْرَارِ وَالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَقَوْلُهُ: " «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ» " (أَيْ) تَكَرُّرُهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لَا أَنَّهُ يَكُونُ مُوجَبًا.

وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْأُمَّةَ كَانَتْ تَرْجِعُ فِي الْوُجُوبِ إِلَى مُطْلَقِ الْأَوَامِرِ فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلَيْسَ هُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ إِنَّهُمْ كَانُوا يَرْجِعُونَ فِي النَّدْبِ إِلَى مُطْلَقِ الْأَوَامِرِ، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَوَامِرِ لِلْمَنْدُوبَاتِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجِعُونَ فِي الْوُجُوبِ إِلَى الْأَوَامِرِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْقَرَائِنِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ.

وَأَمَّا قِصَّةُ أَبِي بَكْرٍ فَلَا حُجَّةَ فِي احْتِجَاجِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَأْتُوا الزَّكَاةَ) عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِمُطْلَقِهِ لِلْوُجُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنْكِرِينَ لِأَصِلِ الْوُجُوبِ، حَتَّى يَسْتَدِلَّ عَلَى الْوُجُوبِ بِالْآيَةِ، بَلْ إِنَّمَا أَنْكَرُوا التَّكْرَارَ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى تَكْرَارِ مَا وَجَبَ لَا يَكُونُ اسْتِدْلَالًا عَلَى نَفْسِ اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ بِمُطْلَقِهِ لِلْوُجُوبِ (٢) .

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَصِفُونَ مَنْ خَالَفَ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِالْعِصْيَانِ، وَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ، لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْقَوْلُ بِمُلَازِمَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ لِلْأَمْرِ الْمُطْلَقِ، وَمُلَازَمَةُ انْتِفَائِهَا لِلْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِالْقَرِينَةِ فِي الْمَنْدُوبَاتِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ.


(١) الْخُدْرِيِّ الصَّوَابُ ابْنُ الْمُعَلَّى كَمَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا
(٢) يَظْهَرُ لِي مِنْ كَلَامِ الْآمِدِيِّ الِاعْتِرَافُ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى إِفَادَةِ الصِّيغَةِ لِلْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا خَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ فِي اسْتِمْرَارِهِ أَوْ تَكْرَارِهِ، وَهَذَا أَقْوَى لِإِفَادَةِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ مِمَّا لَوْ نَازَعُوهُ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>