للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ فَلَا نُسَلِّمُ الْحَصْرَ فِيمَا قِيلَ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، بَلِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ لُغَةً.

وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّانِي: فَمَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْوَاحِدِ مَجَازًا، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.

وَأَمَّا حُجَّةُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: قَتَلْتُ كُلَّ مَنْ فِي الْبَلَدِ، وَأَكَلْتُ كُلَّ رُمَّانَةٍ فِي الدَّارِ، وَكَانَ فِيهَا تَقْدِيرًا أَلْفُ رُمَّانَةٍ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ شَخْصًا وَاحِدًا أَوْ ثَلَاثَةً، وَأَكَلَ رُمَّانَةً وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثَ رُمَّانَاتٍ، فَإِنَّ كَلَامَهُ يُعَدُّ مُسْتَقْبَحًا مُسْتَهْجَنًا عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأَكْرِمْهُ، أَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: مَنْ عِنْدَكَ؟ وَقَالَ: أَرَدْتُ بِهِ زَيْدًا وَحْدَهُ أَوْ ثَلَاثَةَ أَشْخَاصِ مُعَيَّنَةً أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ كَانَ قَبِيحًا مُسْتَهْجَنًا، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا حُمِلَ عَلَى الْكَثْرَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ مُوَافِقًا مُطَابِقًا لِوَضْعِ أَهْلِ اللُّغَةِ.

وَهَذِهِ الْحُجَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنَ السَّدَادِ، وَقَدْ قَلَّدَهُ فِيهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ إِلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ مُسْتَهْجَنًا مِنْهُ، إِذَا كَانَ مُرِيدًا لِلْوَاحِدِ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ، وَقَدِ اقْتَرَنَ بِهِ قَرِينَةٌ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنْ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ، النَّصُّ وَصِحَّةُ الْإِطْلَاقِ.

أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} ، وَأَرَادَ بِالنَّاسِ الْقَائِلِينَ، نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ (١) بِعَيْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ النَّاسِ، وَلَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ مُسْتَهْجَنًا لِاقْتِرَانِهِ بِالدَّلِيلِ.

وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ فَصِحَّةُ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَكَلْتُ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ وَشَرِبْتُ الْمَاءَ، وَالْمُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ مِنْ جِنْسِ مَدْلُولَاتِ اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَقْبَحًا لِاقْتِرَانِهِ بِالدَّلِيلِ.

نَعَمْ إِذَا أَطْلَقَ اللَّفْظَ الْعَامَّ وَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْهُ إِرَادَةَ الْكُلِّ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ فِي الْكَثْرَةِ، وَهُوَ مُرِيدٌ لِلْوَاحِدِ الْبَعِيدِ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ دَلِيلٍ بِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَهْجَنًا.

وَإِذَا عُرِفَ ضَعْفُ الْمَأْخَذِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَعَلَيْكَ بِالِاجْتِهَادِ فِي التَّرْجِيحِ (٢) .


(١) نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ يُكَنَّى أَبَا سَلَمَةَ الْأَشْجَعِيَّ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ أَسْلَمَ لَيَالِيَ الْخَنْدَقِ، وَقُتِلَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَقِيلَ أَوَّلَ خِلَافَةِ عَلِيٍّ فِي وَاقِعَةِ الْجَمَلِ.
(٢) اعْتَرَفَ الْمُؤَلِّفُ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ وَتَرَكَ التَّرْجِيحَ لِلنَّاظِرِ فِيهَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ نِهَايَةَ التَّخْصِيصِ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ التَّرَاكِيبِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ (انْظُرِ الْمِنْهَاجَ لِلْبَيْضَاوِيِّ وَمَا كُتِبَ عَلَيْهِ)

<<  <  ج: ص:  >  >>