للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ بِطَرِيقِ الشُّبْهَةِ إِذَا كَانَ حُكْمُ الْمُطْلَقِ إِمْكَانَ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهِ، بِمَا شَاءَ الْمُكَلَّفُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَالْعَمَلُ بِالْمُقَيَّدِ مِمَّا يُنَافِي مُقْتَضَى الْمُطْلَقِ، وَلَيْسَ مُخَالَفَةُ الْمُطْلَقِ، وَإِجْرَاءُ الْمُقَيَّدِ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ الْمُقَيَّدِ بِحَمْلِهِ عَلَى النَّدْبِ وَإِجْرَاءِ الْمُطْلَقِ عَلَى إِطْلَاقِهِ.

قُلْنَا: بَلِ التَّقْيِيدُ أَوْلَى مِنَ التَّأْوِيلِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ، وَلَا كَذَلِكَ فِي التَّأْوِيلِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْمُطْلَقَ إِذَا حُمِلَ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَالْعَمَلُ بِهِ فِيهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُوفِيًا لِلْعَمَلِ بِاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَدَّاهُ قَبْلَ وُرُودِ التَّقْيِيدِ، كَانَ قَدْ عَمِلَ بِاللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ الْمُقَيَّدِ وَصَرْفِهِ عَنْ جِهَةِ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْخُرُوجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بِفِعْلِ أَيِّ وَاحِدٍ كَانَ مِنَ الْآحَادِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ دَلَالَةً عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ لُغَةً، بِخِلَافِ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُقَيَّدُ مِنْ صِفَةِ التَّقْيِيدِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَحْذُورَ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لُغَةً أَعْظَمُ مِنْ صَرْفِهِ عَمَّا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِلَفْظِهِ لُغَةً.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ دَالًّا عَلَى نَفْيِهِمَا أَوْ نَهْيٍ عَنْهُمَا، كَمَا لَوْ قَالَ مَثَلًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: " لَا تَعْتِقُ مُكَاتَبًا كَافِرًا " فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا خِلَافَ فِي الْعَمَلِ بِمَدْلُولِهِمَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْيِ؛ إِذْ لَا تَعَذُّرَ فِيهِ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ سَبَبُهُمَا مُخْتَلِفًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فَهَذَا مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ.

فَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَنْزِيلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي تَأْوِيلِهِ.

فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّقْيِيدِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ.

وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا إِذَا وُجِدَ بَيْنَهُمَا عِلَّةٌ جَامِعَةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِلْإِلْحَاقِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِهِ.

وَأَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>