أَمَّا أَوَّلًا، فَلِأَنَّ التَّأْوِيلَ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الِاحْتِمَالِ الَّذِي حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ نَفْسُ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ التَّأْوِيلُ بِصَرْفِ اللَّفْظِ عَمَّا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ غَيْرِ ظَنِّيٍّ، حَيْثُ قَالَ: يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ يَصِيرُ بِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، وَأَمَا ثَالِثًا: فَلِأُنَّهُ أُخِذَ فِي حَدِّ التَّأْوِيلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَأْوِيلٌ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّأْوِيلِ بِدَلِيلٍ، وَلِهَذَا يُقَالُ تَأْوِيلٌ بِدَلِيلٍ وَتَأْوِيلٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.
فَتَعْرِيفُ التَّأْوِيلِ عَلَى وَجْهٍ يُوجَدُ مَعَهُ الِاعْتِضَادُ بِالدَّلِيلِ لَا يَكُونُ تَعْرِيفًا لِلتَّأْوِيلِ الْمُطْلَقِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا أَرَادَ تَعْرِيفَ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا التَّأْوِيلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَأْوِيلٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ، هُوَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ الظَّاهِرِ مِنْهُ، مَعَ احْتِمَالِهِ لَهُ.
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الْمَقْبُولُ الصَّحِيحُ فَهُوَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ الظَّاهِرِ مِنْهُ مَعَ احْتِمَالِهِ لَهُ بِدَلِيلٍ يُعَضِّدُهُ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا (حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ) احْتِرَازًا، عَنْ حَمْلِهِ عَلَى نَفْسِ مَدْلُولِهِ.
وَقَوْلُنَا (الظَّاهِرُ مِنْهُ) احْتِرَازٌ عَنْ صَرْفِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ إِلَى الْآخَرِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى تَأْوِيلًا.
وَقَوْلُنَا (مَعَ احْتِمَالِهِ لَهُ) احْتِرَازٌ عَمَّا إِذَا صُرِفَ اللَّفْظُ عَنْ مَدْلُولِهِ الظَّاهِرِ إِلَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَأْوِيلًا صَحِيحًا.
وَقَوْلُنَا: (بِدَلِيلٍ يُعَضِّدُهُ) احْتِرَازٌ عَنِ التَّأْوِيلِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَأْوِيلًا صَحِيحًا أَيْضًا.
وَقَوْلُنَا: (بِدَلِيلٍ يَعُمُّ الْقَاطِعَ وَالظَّنِّيَّ) وَعَلَى هَذَا فَالتَّأْوِيلُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَى النَّصِّ وَلَا إِلَى الْمُجْمَلِ، وَإِنَّمَا يَتَطَرَّقُ إِلَى مَا كَانَ ظَاهِرًا. (١) وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى التَّأْوِيلِ فَهُوَ مَقْبُولٌ مَعْمُولٌ بِهِ إِذَا تَحَقَّقَ مَعَ شُرُوطِهِ، وَلَمْ يَزَلْ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ فِي كُلِّ عَصْرٍ مَنْ عَهِدَ الصَّحَابَةِ إِلَى زَمَنِنَا عَامِلِينَ بِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
(١) ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَةَ لِلتَّأْوِيلِ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ، وَأَوْضَحَ كُلًّا مِنْهَا بِالْأَمْثِلَةِ فَانْظُرْهَا فِي التَّدْمُرِيَّةِ وَالْحَمَوِيَّةِ مِنْ كُتُبِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute