مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَا يَدْعُو بِهِ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ إِلَى الِاصْطِلَاحِ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ فَإِنْ كَانَ بِالِاصْطِلَاحِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ التَّوْقِيفِ، وَجُوِّزَ حُصُولُ مَا عَدَا ذَلِكَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ إِلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مُمْكِنٌ بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُهُ لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَأَمَّا وُقُوعُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَالظُّنُونُ مُتَعَارِضَةٌ يَمْتَنِعُ مَعَهَا الْمَصِيرُ إِلَى التَّعْيِينِ.
هَذَا مَا قِيلَ، وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَقِينَ الْوُقُوعِ لِبَعْضِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ. فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ; إِذْ لَا يَقِينَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى مَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ.
وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ، وَهُوَ الْحَقُّ فَالْحَقُّ مَا صَارَ إِلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ لِمَا قِيلَ مِنَ النُّصُوصِ لِظُهُورِهَا فِي الْمَطْلُوبِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ ظُهُورَ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَطْلُوبِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} فَالْمُرَادُ بِالتَّعْلِيمِ إِنَّمَا هُوَ إِلْهَامُهُ وَبَعْثُ دَاعِيَتِهِ عَلَى الْوَضْعِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ مُعَلِّمًا (١) لِكَوْنِهِ الْهَادِيَ إِلَيْهِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ أَفْهَمَهُ ذَلِكَ بِالْخِطَابِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ دَاوُدَ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} مَعْنَاهُ أَلْهَمْنَاهُ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أَيْ أَلْهَمْنَاهُ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِفْهَامُ بِالْخِطَابِ وَالتَّوْقِيفِ، وَلَكِنْ أَرَادَ بِهِ كُلَّ الْأَسْمَاءِ مُطْلَقًا، أَوِ الْأَسْمَاءَ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِهِ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ آدَمَ بِهَا كَانَ تَوْقِيفِيًّا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا بِالتَّوْقِيفِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُصْطَلَحِ خَلْقٍ سَابِقٍ عَلَى آدَمَ، وَالْبَارِي تَعَالَى عَلَّمَهُ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.
سَلَّمْنَا أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ الْمَعْلُومَةِ لِآدَمَ بِالتَّوْقِيفِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أُنْسِيهَا، وَلَمْ
(١) الْأُولَى سُمِّي إِلْهَامُهُ تَعْلِيمًا لِهِدَايَتِهِ إِلَيْهِ.