للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنَ الْآيَةِ فِي نَفْسِهَا إِذِ الْقُرْآنُ كُلُّهُ خَيْرٌ لَا تَفَاضُلَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، وَذَلِكَ هُوَ الْأَخَفُّ وَالْأَسْهَلُ فِي الْأَحْكَامِ. (١) وَالْجَوَابُ عَنِ الْمَعْقُولِ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ لَازِمٌ عَلَيْهِمْ فِي ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ، وَنَقْلِ الْخَلْقِ مِنَ الْإِبَاحَةِ وَالْإِطْلَاقِ إِلَى مَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ، وَكَذَلِكَ فِي نَقْلِهِمْ مِنَ الصِّحَّةِ إِلَى السَّقَمِ، وَمِنَ الشَّبِيبَةِ إِلَى الْهَرَمِ، وَمِنَ الْجِدَةِ إِلَى الْعَدَمِ، وَإِعْدَامِ الْقَوِيِّ وَالْحَوَاسِّ بَعْدَ وُجُودِهَا، فَإِنَّ مَا نَقَلَهُمْ إِلَيْهِ أَشَقُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا نَقَلَهُمْ عَنْهُ.

وَكُلُّ مَا ذَكَرُوهُ فَهُوَ بِعَيْنِهِ لَازِمٌ هَاهُنَا، وَمَا هُوَ الْجَوَابُ فِي صُورَةِ الْإِلْزَامِ فَهُوَ جَوَابُنَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.

وَعَنِ الْآيَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ لَا عُمُومَ فِيهَا حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ ذَلِكَ إِرَادَةُ التَّخْفِيفِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

وَبِتَقْدِيرِ الْعُمُومِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ التَّخْفِيفِ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ التَّخْفِيفَ فِي الْمَآلِ بِرَفْعِ أَثْقَالِ الْآخِرَةِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْمَعَاصِي بِمَا يَحْصُلُ لَنَا مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ عَلَيْنَا فِي الدُّنْيَا وَعَلَى طِبَاعِنَا تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِعَاقِبَتِهِ. (٢) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي} ، وَمِنْهُ يُقَالُ: ( «لُدُّوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ» ) (٣) وَبِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ الْفَوْرِ فَلَا يَمْتَنِعُ التَّخْصِيصُ كَمَا خَصَّ بِأَثْقَالِ تَكَالِيفِهِ الْمُبْتَدَأَةِ وَابْتِلَائِهِ فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.

وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ صَالِحٌ لِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْآيَةِ.

وَعَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مَا فِيهِ الْيُسْرُ وَالْعُسْرُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَآلِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ مِنْهُ كَثْرَةُ التَّخْصِيصِ بِابْتِدَاءِ التَّكَالِيفِ، وَمَا وَقَعَ بِهِ الِابْتِلَاءُ فِي الدُّنْيَا فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ.


(١) انْظُرْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ مِنْ وُجُوهِ التَّفَاضُلِ بَيْنَ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِهِ جَوَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فِي أَنَّ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ.
(٢) تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ وَقَعَ عِلَّةً لِقَوْلِهِ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ التَّخْفِيفُ.
(٣) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا: " إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا " الْحَدِيثَ، وَنَقَلَ الْقَارِيُّ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مِمَّا يَدُورُ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا أَصْلَ لَهُ. انْظُرْ تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي كَشْفِ الْخَفَاءِ وَالْإِلْبَاسِ لِلْعَجْلُونِيِّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>