للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَيْفَ وَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ آحَادًا إِلَّا أَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَاصًّا وَالْمُتَوَاتِرُ عَامًا. وَالظَّنُّ الْحَاصِلُ مِنَ الْخَاصِّ إِذَا كَانَ آحَادًا أَقْوَى مِنَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ مِنَ الْعَامِّ الْمُتَوَاتِرِ ; لِأَنَّ تَطَرُّقَ الضَّعْفِ إِلَى الْوَاحِدِ مِنْ جِهَةِ كَذِبِهِ وَاحْتِمَالِ غَلَطِهِ، وَتَطَرُّقَ الضَّعْفِ إِلَى الْعَامِ مِنْ جِهَةِ تَخْصِيصِهِ وَاحْتِمَالِ إِرَادَةِ بَعْضِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ دُونَ الْبَعْضِ وَاحْتِمَالِ تَطَرُّقِ التَّخْصِيصِ إِلَى الْعَامِّ - أَكْثَرُ مِنْ تَطَرُّقِ الْخَطَأِ وَالْكَذِبِ إِلَى الْعَدْلِ، فَكَانَ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَقْوَى.

وَأَمَّا الْمُثْبِتُونَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِالنَّقْلِ وَالْمَعْنَى.

أَمَّا النَّقْلُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ وُجُوبَ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَإِنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِنَاءً عَلَى السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَلَمَّا نُسِخَ «جَاءَهُمْ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ: (إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ» ) (١) فَاسْتَدَارُوا بِخَبَرِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ.

الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْفِذُ الْآحَادَ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ لِتَبْلِيغِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَلَوْلَا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ لَمَا كَانَ قَبُولُهُ وَاجِبًا. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّسْخَ أَحَدُ الْبَيَانَيْنِ فَكَانَ جَائِزًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَالتَّخْصِيصِ.

الثَّانِي: أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فَنَسْخُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِهِ أَوْلَى. (٢)


(١) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَنَزَلَتْ (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرَ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً فَنَادَى أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ.
(٢) هَذِهِ الْقَاعِدَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ لِلنَّظَرِ فِيهَا مَجَالٌ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَتْ مَوْضِعَ نِزَاعٍ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ فَتَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَأَمْثَالِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنَّ يَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مَنْ يَسْتَدِلُّ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالْمَوْضُوعَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>