للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَثَالِثُهَا: إِطْلَاقُ اسْمِ الْحُسْنِ عَلَى مَا لِفَاعِلِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، بِمَعْنَى نَفْيِ الْحَرَجِ عَنْهُ فِي فِعْلِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ (١) لِدُخُولِ الْمُبَاحِ فِيهِ، وَالْقَبِيحُ فِي مُقَابَلَتِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فَلَا يَكُونُ ذَاتِيًّا، وَعَلَى هَذَا فَمَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَحَسَنٌ بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَقَبْلَهُ بِالِاعْتِبَارِ الثَّالِثِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَحَسَنُهُ وَقَبِيحُهُ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ، وَبَعْدَهُ بِالِاعْتِبَارَاتِ الثَّلَاثَةِ. (٢) وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْكَرَّامِيَّةُ وَالْخَوَارِجُ وَالْبَرَاهِمَةُ (٣) وَالثَّنَوِيَّةُ (٤) وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى حَسَنَةٍ وَقَبِيحَةٍ لِذَوَاتِهَا، لَكِنَّ مِنْهَا مَا يُدْرَكُ حُسْنُهُ وَقُبْحُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ كَحُسْنِ الْإِيمَانِ وَقُبْحِ الْكُفْرَانِ، أَوْ بِنَظَرِهِ كَحُسْنِ الصِّدْقِ الْمُضِرِّ وَقُبْحِ الْكَذِبِ النَّافِعِ، أَوْ بِالسَّمْعِ كَحُسْنِ الْعِبَادَاتِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا


(١) صَوَابُهُ الثَّانِي ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنَ الْمُبَاحِ
(٢) الصَّحِيحُ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ: الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ بِمَعْنَى اشْتِمَالِ الْفِعْلِ عَلَى مَصْلَحَةٍ كَانَ بِهَا حَسَنًا أَوْ عَلَى مَفْسَدَةٍ كَانَ بِهِ قَبِيحًا، ثُمَّ نَشَأَ عَنْ ذَلِكَ خِلَافٌ آخَرُ هَلْ تَثْبُتُ الْأَحْكَامُ بِمَا فِي الْأَفْعَالِ مِنْ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ شَرْعٌ أَوْ يَتَوَقَّفْ ذَلِكَ عَلَى وُرُودِ الشَّرْعِ، فَذَهَبَ الْجَبْرِيَّةُ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ إِلَى نَفْيِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَجَعَلُوهُمَا تَابِعَيْنِ لِأَمْرِ الشَّرْعِ وَنَهْيِهِ، لِذَلِكَ جَعَلُوا الْعِلَلَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ أَمَارَاتٍ، وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى إِثْبَاتِهِمَا وَبِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ شَرْعٌ، فَأَثْبَتُوا لُزُومَ الْأَحْكَامِ لَهَا، فَإِذَا أَدْرَكَ الْعَقْلُ الْحُسْنَ فِي فِعْلٍ قَضَى بِطَلَبِهِ، وَإِذَا أَدْرَكَ الْقُبْحَ فِي فِعْلٍ حَكَمَ بِمَنْعِهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوا الْعِلَلَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ بَوَاعِثَ وَدَوَاعِيَ لِبِنَاءِ الْحُكْمِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى إِثْبَاتِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَنَفَوُا التَّلَازُمَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَحْكَامِ، وَقَالُوا: لَا يَثْبُتُ حُكْمٌ إِلَّا بِالشَّرْعِ. وَأَثْبَتُوا بِأَدِلَّةِ الْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَأَنَّهَا لَا تَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بَلْ تَنْفِيهِ، حَتَّى يُثْبِتَهُ الشَّرْعُ، وَجَعَلُوا أَدِلَّةَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِثْبَاتِهِمَا رَدًّا عَلَى الْجَبْرِيَّةِ فِي نَفْيِهِمْ لَهُمَا، وَجَعَلُوا أَدِلَّةَ الْجَبْرِيَّةِ رَدًّا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِثْبَاتِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِهِمَا، فَأَخَذُوا الْحَقَّ مِنْ قَوْلِ الْفَرِيقَيْنِ، وَرَدُّوا بَاطِلَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا مَعَ الْآخَرِ مِنْ أَدِلَّةِ الْحَقِّ - ارْجِعْ إِلَى ج ١ مِنْ مَدَارِجِ السَّالِكِينَ لِابْنِ الْقَيِّمِ وَإِلَى جَوَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ لِابْنِ تَيْمِيَةَ، فَفِيهِمَا تَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ وَبَسْطُ الْأَدِلَّةِ
(٣) الْبَرَاهِمَةُ: جَمَاعَةٌ مِنْ حُكَمَاءِ الْهِنْدِ تَبِعُوا فَيْلَسُوفًا يُسَمَّى بُرْهَامَ، فَنُسِبُوا إِلَيْهِ، وَقِيلَ إِنَّهُمْ طَائِفَةٌ عَبَدَتْ صَنَمًا يُسَمَّى بُرْهُمَ فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ
(٤) طَائِفَةٌ تَزْعُمُ أَنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ أَزَلِيَّانِ قَدِيمَانِ، فَنُسِبَتْ إِلَى الِاثْنَيْنِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>