للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ ظَاهِرَةً مُنْضَبِطَةً غَيْرَ مُضْطَرِبَةٍ فَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا اقْتَرَنَ بِوَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى حِكْمَةٍ غَيْرِ مُنْضَبِطَةٍ بِنَفْسِهَا أَنَّهُ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمَقْصُودَ مَنْ شَرْعِ الْحُكْمِ، بَلْ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ وَهِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ مُسَاوِيَةً لِلْوَصْفِ فِي الظُّهُورِ وَالِانْضِبَاطِ كَانَتْ أَوْلَى بِالتَّعْلِيلِ بِهَا.

وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ خَفِيَّةً مُضْطَرِبَةً غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ فَيَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِهَا لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ خَفِيَّةً مُضْطَرِبَةً مُخْتَلِفَةً بِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مَا هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ مِنْهَا وَالْوُقُوفُ عَلَيْهِ إِلَّا بِعُسْرٍ وَحَرَجٍ، وَدَأْبُ الشَّارِعِ فِيمَا هَذَا شَأْنُهُ عَلَى مَا أَلِفْنَاهُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ رَدُّ النَّاسِ فِيهِ إِلَى الْمَظَانِّ الظَّاهِرَةِ الْجَلِيَّةِ دَفْعًا لِلْعُسْرِ عَنِ النَّاسِ وَالتَّخَبُّطِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلِهَذَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا قَضَى بِالتَّرَخُّصِ فِي السَّفَرِ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ الْمَضْبُوطَةِ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ إِلَى مَقْصِدٍ مُعَيَّنٍ، وَلَمْ يُعَلِّقْهَا بِنَفْسِ الْمَشَقَّةِ لَمَّا كَانَتْ مِمَّا يَضْطَرِبُ وَيَخْتَلِفُ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخَّصْ لِلْحَمَّالِ الْمَشْقُوقِ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ مَشَقَّتَهُ تَزِيدُ عَلَى مَشَقَّةِ الْمُسَافِرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَرْسَخًا، وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الرَّفَاهِيَةِ وَالدَّعَةِ؛ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ وَيَضْطَرِبُ.

الثَّانِي: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى صِحَّةِ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ بِالْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ الْمُنْضَبِطَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى احْتِمَالِ الْحُكْمِ، كَتَعْلِيلِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ لِحِكْمَةِ الزَّجْرِ أَوِ الْجَبْرِ، وَتَعْلِيلِ صِحَّةِ الْبَيْعِ بِالتَّصَرُّفِ الصَّادِرِ مِنَ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ لِحِكْمَةِ الِانْتِفَاعِ، وَتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَإِيجَابِ الْحَدِّ بِهِ لِحِكْمَةِ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ النَّاشِئَةِ مِنْهُ وَنَحْوِهِ، وَلَوْ كَانَ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ مِمَّا يَصِحُّ لَمَ احْتِيجَ إِلَى التَّعْلِيلِ بِضَوَابِطَ هَذِهِ الْحِكَمِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَلِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْحَرَجِ بِالْبَحْثِ عَنِ الْحِكْمَةِ وَعَنْ ضَابِطِهَا مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ بِأَحَدِهِمَا.

الثَّالِثُ: أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْحِكْمَةِ الْمُجَرَّدَةِ إِذَا كَانَتْ خَفِيَّةً مُضْطَرِبَةً مِمَّا يُفْضِي إِلَى الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بِالْبَحْثِ عَنْهَا وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا، وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِي التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ

<<  <  ج: ص:  >  >>