وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ التَّقَدُّمِ.
قَوْلُهُمْ: يَلْزَمُ مِنْهُ نَقْضُ الْعِلَّةَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً لِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ بَلْ إِنَّمَا يَصِيرُ عِلَّةً بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهُ بِقِرَانِ الْحُكْمِ الْآخَرِ بِهِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي تَعْلِيلِ تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ بِالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ فَإِنَّ الشِّدَّةَ الْمُطْرِبَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى التَّحْرِيمِ فَلَا يُقَالُ إِنَّهَا عِلَّةٌ قَبْلَ اعْتِبَارِهَا مِنَ الشَّرْعِ بِقِرَانِ التَّحْرِيمِ بِهَا، فَلَا تَكُونُ مُنْتَقِضَةً بِتَخَلُّفِ التَّحْرِيمِ عَنْهَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ التَّقَدُّمِ فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ مُقَارَنًا؟
قَوْلُهُمْ: لَيْسَ جَعْلُ أَحَدِ الْمُقْتَرِنَيْنِ عِلَّةً لِلْآخَرِ أَوْلَى لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَإِلَّا فَمَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ جِهَةِ الْبَعْثِ فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ فَهُوَ لَازِمٌ عَلَيْهِمْ فِي التَّعْلِيلِ بِالْأَوْصَافِ الْحَقِيقَيَّةِ، وَمَا هُوَ جَوَابٌ ثَمَّ فَهُوَ الْجَوَابُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ، فَالْمُخْتَارُ مِنْ قِسْمَيْهَا أَنَّهُ عِلَّةٌ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ مُمْتَنِعٌ خَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ - دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا.
وَعِنْدَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ الْمُعَرِّفَةِ، لَكِنْ لَا فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ بَلْ فِي غَيْرِهِ، فَقَدْ حَرَّمَتْ، كَذَا فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: مَهْمَا رَأَيْتُمْ أَنَّنِي حَرَّمْتُ كَذَا فَقَدْ حَرَّمْتُ كَذَا، وَمَهْمَا أَبَحْتُ كَذَا، كَمَا لَوْ قَالَ: مَهْمَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَصَلُّوا، وَمَهْمَا طَلَعَ هِلَالُ رَمَضَانَ فَصُومُوا.
وَأَمَّا فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهِ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ الْمُعَرِّفَةِ بَلْ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ عِلَّةً لِحُكْمِ أَصْلِ الْقِيَاسِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بَاعِثًا عَلَيْهِ.
وَعَلَى هَذَا فَحُكْمُ الْأَصْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمًا تَكْلِيفِيًّا أَوْ بِخِطَابِ الْوَضْعِ وَالْأَخْبَارِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute