للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِ تَحْصِيلِ الْحِكْمَةِ لِحِكْمَةٍ هِيَ نَفْسُهَا كَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ وَدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ عَنِ النَّفْسِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي فِعْلِ الشُّكْرِ، فَإِنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ لَيْسَ هُوَ الْحِكْمَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْ إِيجَادِهِ، وَلَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ مِثْلُهُ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنِ الْفَائِدَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ إِيجَادِهِ بَقِيَ التَّقْسِيمُ بِحَالِهِ.

قَوْلُهُمْ: مَا الْمَانِعُ أَنَّ الْفَائِدَةَ هِيَ الْأَمْنُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْعَاقِلِ عَنْ خُطُورِ مَا ذَكَرُوهُ مَنَ الِاحْتِمَالِ بِبَالِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ شَاهِدًا، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ ذَلِكَ، فَمَا ذَكَرُوهُ مُعَارَضٌ بِاحْتِمَالِ خُطُورِ الْعِقَابِ بِبَالِهِ عَلَى شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِتْعَابِهِ لِنَفْسِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا، مَعَ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ إِذْنِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ تَرْجِعُ إِلَيْهِ (١) وَلَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ هَذَا رَاجِحًا، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ مَنْ أَخَذَ فِي التَّقَرُّبِ وَالْخِدْمَةِ إِلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ الْعُظَمَاءِ بِتَحْرِيكِ أُنْمُلَتِهِ فِي كَسْرِ بَيْتِهِ، وَإِظْهَارِ شُكْرِهِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِي الْبِلَادِ عَلَى إِعْطَائِهِ لُقْمَةً مَعَ اسْتِغْنَائِهِ وَاسْتِغْنَاءِ الْمَلِكِ عَنْهَا، فَإِنَّهُ يُعَدُّ مُسْتَهْزِئًا بِذَلِكَ الْمَلِكِ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ عَلَى صُنْعِهِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ شُكْرَ الشَّاكِرِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ تَحْرِيكِ الْأُنْمُلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِ الْمَلِكِ، وَأَنَّ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْعَبِيدِ لِعَدَمِ تَنَاهِي مُلْكِهِ وَتَنَاهِي مُلْكِ غَيْرِهِ دُونَ تِلْكَ اللُّقْمَةِ، فَكَانَ الْمُتَعَاطِي لِخِدْمَةِ اللَّهِ وَشُكْرِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ بِهِ أَوْلَى بِالذَّمِّ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، وَلَوْلَا وُرُودُ الشَّرْعِ بِطَلَبِ ذَلِكَ مِنَ الْعَبِيدِ وَحَثِّهِمْ عَلَيْهِ لَمَا وَقَعَ (٢) الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ.

وَمَا يُقَالُ مِنْ حَالِ (٣) الْمُشْتَغِلِ بِالشُّكْرِ وَالْخِدْمَةِ أَرْجَى حَالًا مِنَ الْمُعْرِضِ عَنْ ذَلِكَ عُرْفًا فَكَانَ أَوْلَى، فَهُوَ مُسَلَّمٌ فِي حَقِّ مَنْ يَنْتَفِعُ بِالْخِدْمَةِ وَالشُّكْرِ وَيَتَضَرَّرُ بِعَدَمِهِمَا، وَالْبَارِي تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَطَّرِدُ مَا ذَكَرُوهُ فِي حَقِّهِ. (٤)


(١) إِنَّمَا يَشْكُرُ رَبَّهُ دَفْعًا لِمَفْسَدَةٍ يَخْشَاهَا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ جَلْبًا لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ.
(٢) لَوْ قَالَ: لَمَا صَحَّ أَوْ لَمَا جَازَ. لَكَانَ أَنْسَبَ.
(٣) الْأَوْلَى: مِنْ أَنَّ الْمُشْتَغِلَ. . . إِلَخْ.
(٤) فَائِدَةُ الشُّكْرِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ عَوْدُهَا إِلَى اللَّهِ، فَيَتَأَتَّى عَوْدُهَا إِلَى الْعِبَادِ كَمَا تَقَدَّمَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>