للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّعْلِيلِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا ; لِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ الْمَحْذُوفُ وَالْمُسْتَبْقِي فِي انْتِفَاءِ الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مَعْقُولَ الْمَعْنَى فَغَايَةُ مَا فِي حَذْفِ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ إِبْطَالُ مُعَارِضِ الْعِلَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ صِحَّةُ كَوْنَ الْمُسْتَبْقِي عِلَّةً ; لِأَنَّ صِحَّةَ الْعِلَّةِ إِنَّمَا إِلَى وُجُودِ مُصَحِّحِهَا لَا بِالنَّظَرِ إِلَى انْتِفَاءِ مَعَارِضِهَا. (١) قُلْنَا: إِذَا كَانَ الْبَاحِثُ مُسْلِمًا عَدْلًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْبَحْثِ وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى وَصْفٍ آخَرَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْقَضَاءُ بِنَفْيِ الْوَصْفِ لَا يَكُونُ مُسْتَنِدًا إِلَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، بَلْ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ بِعَدَمِهِ، فَإِنَّ الظَّنَّ بِعَدَمِ الشَّيْءِ مُلَازِمٌ لِلْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُهُ مَعَ عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَصْمُ يَعْلَمُ وُجُودَ وَصْفٍ آخَرَ لَأَبْرَزَهُ وَأَظْهَرَهُ ; إِفْحَامًا لِخَصْمِهِ وَإِظْهَارًا لِعِلْمٍ مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِظْهَارِهِ، فَدَعْوَى الْعِلْمِ مِنْهُ بِوُجُودِ وَصْفٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ مَعَ إِمْكَانِ الْبَيَانِ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا لِظُهُورِ الْعِنَادِ فِيهِ، وَلَوْ بَيَّنَ الْخَصْمُ وُجُودَ وَصْفٍ آخَرَ، فَإِنَّا وَإِنْ تَبَيَّنَّا انْخِرَامَ حَصْرِ الْمُسْتَدِلِّ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا أَدْرَجَهُ فِي الْإِبْطَالِ مَعَ مَا أَبْطَلَ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ مُنْقَطِعًا فِيمَا يَقْصِدُهُ مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمُسْتَبْقِي، وَإِذَا ثَبَتَ انْحِصَارُ الْأَوْصَافِ فِي الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إِذَا أَخْرَجَ الْبَعْضَ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ تَعَيَّنَ انْحِصَارُ التَّعْلِيلِ فِي الْمُسْتَبْقِي، فَإِنَّهُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ تَعَبُّدًا غَيْرَ أَنَّهُ بَعِيدٌ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَلَيْسَ الْقَضَاءُ بِكَوْنِ الْمُسْتَبْقِي عِلَّةً بِنَاءً عَلَى إِبْطَالِ الْمُعَارِضِ، بَلْ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ ظَاهِرًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ انْحِصَارُهَا فِي الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إِبْطَالِ الْبَعْضِ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ التَّعْلِيلُ بِالْمُسْتَبْقِي، وَيَكُونُ ذَلِكَ الظَّنُّ مُسْتَفَادًا مِنْ جُمْلَةِ الْقَوَاعِدِ الْمُمَهِّدَةِ لَا مِنْ نَفْسِ إِبْطَالِ الْمُعَارِضِ.

هَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ الْمَنَاظِرِ. (٢)


(١) هَذِهِ سِتَّةُ اعْتِرَاضَاتٍ وَارِدَةٍ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ النَّاظِرُ مِنْ قَوْلِهِ: لِأَنِّي بَحَثْتُ إِلَخْ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهَا الْمُسْتَدِلُّ بِسِتَّةِ أَجْوِبَةٍ مُرَتِّبَةٍ تَرْتِيبَهَا.
(٢) النَّاظِرُ مَنْ بَحَثَ لِنَفْسِهِ فَمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ، وَالْمُنَاظَرُ بِهِ بَحْثٌ مَعَ خَصْمٍ يُنَاقِشُهُ فِي دَلِيلِهِ فَإِنْ أَقْنَعَ الْمُسْتَدِلُّ خَصْمَهُ أَوْ أَلْزَمَهُ الْحُجَّةَ كَانَ إِفْحَامًا، وَإِنْ عَجَزَ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ إِتْمَامِ دَلِيلِهِ أَوِ انْتَقَلَ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ كَانَ مُنْقَطِعًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>