للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ: الْمُبَاحُ هُوَ الْمَأْذُونُ فِي فِعْلِهِ، وَقَدْ وَرَدَ دَلِيلُ الْإِذْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ تَرِدْ صُورَةُ الْإِذْنِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الطُّعُومَ فِي الْمَأْكُولَاتِ وَالذَّوْقَ فِينَا، وَأَقْدَرَنَا عَلَيْهَا، وَعَرَّفَنَا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّهَا نَافِعَةٌ لَنَا غَيْرُ مُضِرَّةٍ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَهُوَ دَلِيلُ الْإِذْنِ مِنْهُ لَنَا فِي ذَلِكَ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ قَدَّمَ إِنْسَانٌ طَعَامًا بَيْنَ يَدَيْ إِنْسَانٍ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّ الْعُقَلَاءَ يَقْضُونَ بِكَوْنِهِ قَدْ أُذِنَ لَهُ فِيهِ.

الثَّانِي: أَنَّ خَلْقَهُ لِلطُّعُومِ فِي الْأَجْسَامِ مَعَ إِمْكَانٍ أَلَّا يَخْلُقَهَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَائِدَةٍ نَفْيًا لِلْعَبَثِ عَنْهُ، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْفَائِدَةُ عَائِدَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِتَعَالِيهِ عَنْهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ عَوْدِهَا إِلَى الْعَبْدِ، وَلَيْسَتْ هِيَ الْإِضْرَارَ وَلَا مَا هُوَ خَارِجٌ عَنِ الْإِضْرَارِ وَالِانْتِفَاعِ ; إِذْ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَكَانَتْ فَائِدَتُهَا الِانْتِفَاعَ بِهَا وَهُوَ دَلِيلُ الْإِذْنِ فِي إِدْرَاكِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِجِهَةِ الِالْتِذَاذِ بِهَا وَتَقْوِيمِ الْبِنْيَةِ، أَوْ بِجِهَةِ تَجَنُّبِهَا لِنَيْلِ الثَّوَابِ، أَوِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَوَقُّفِ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى إِدْرَاكِهَا وَاحْتِمَالِ وُجُودِ مَفْسَدَةٍ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنَ الْإِذْنِ وَالْحُكْمِ بِالْإِبَاحَةِ، بِدَلِيلِ الِاسْتِضَاءَةِ بِسِرَاجِ الْغَيْرِ وَالِاسْتِظْلَالِ بِحَائِطِهِ.

وَقُلْنَا: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَمَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا (١) ، ثُمَّ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ فَإِبَاحَتُهُ شَرْعِيَّةٌ لَا عَقْلِيَّةٌ. (٢) وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ، إِنْ عَنَوْا بِهِ تَوَقُّفَ الْحُكْمِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى وُروُدِ السَّمْعِ فَحَقٌّ، وَإِنْ عَنَوْا بِهِ الْإِحْجَامَ عَنِ الْحُكْمِ بِالْوُجُوبِ أَوِ الْحَظْرِ أَوِ الْإِبَاحَةِ لِتَعَارُضِ أَدِلَّتِهَا فَفَاسِدٌ لِمَا سَبَقَ.


(١) رِعَايَةُ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ وَفِي شَرْعِهِ مِمَّا يُوجَبُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنْ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا.
(٢) كَلَامُ الْمُسْتَدِلِّ فِي ثُبُوتِ الْإِذْنِ بِالِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ الْمَحْضِ، لَا بِالنَّصِّ الشَّرْعِيِّ، فَالتَّسْلِيمُ لَهُ تَسْلِيمٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>