للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سَلَّمْنَا صِحَّتَهُ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ، غَيْرَ أَنَّ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ أَعَمُّ مِنَ الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ كَمَا يَكُونُ بِالْقِيَاسِ قَدْ يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِخَفِيِّ النُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَلَبِ الْحُكْمِ فِيهِمَا، وَعَلَى التَّمَسُّكِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَفْظُهُ غَيْرُ عَامٍّ فِي كُلِّ رَأْيٍ، فَلَا يَكُونُ حَمْلُهُ عَلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ بِالْقِيَاسِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.

سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ بِالْقِيَاسِ، غَيْرَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ أَوْ مُومَأٌ إِلَيْهَا، وَإِلَى مَا عِلَّتُهُ مُسْتَنْبَطَةٌ بِالرَّأْيِ، وَاللَّفْظُ أَيْضًا مُطْلَقٌ، وَقَدْ عَمِلْنَا بِهِ فِي الْقِيَاسِ الَّذِي عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ عَلَى مَا قَالَهُ النَّظَّامُ.

سَلَّمْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا فِي كُلِّ قِيَاسٍ، وَلَكِنْ قَبْلَ إِكْمَالِ الدِّينِ أَوْ بَعْدَهُ؟ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} .

الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ إِكْمَالَ الدِّينِ إِنَّمَا يَكُونُ بِاشْتِمَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى تَعْرِيفِ كُلِّ مَا لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَعَلَى هَذَا فَالْقِيَاسُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ حُجَّةً مُطْلَقًا لَكِنْ فِيمَا تَعَبَّدْنَا فِي إِثْبَاتِهِ بِالظَّنِّ لَا بِالْيَقِينِ، وَالْقِيَاسُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَبِهَذَا يَكُونُ الِاعْتِرَاضُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا.

وَأَمَّا حَدِيثُ الْجَارِيَةِ الْخَثْعَمِيَّةِ، فَالْوَارِدُ عَلَيْهِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى حَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَأَنَّهُ ظَنِّيٌّ فَلَا يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ وَهُمَا عَامَّانِ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَيَخُصُّهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا ذَكَرَ دَيْنَ الْآدَمِيِّ بِطَرِيقِ التَّقْرِيبِ إِلَى فَهْمِ الْجَارِيَةِ فِي حُصُولِ نَفْعِ الْقَضَاءِ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، فَلَا.

وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا.

وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ أَمْرَهُ لَهُ بِأَنْ يَحْكُمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِرَأْيِهِ لَا يَخُصُّ الْقِيَاسَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ أَعَمُّ مِنَ الْقِيَاسِ، فَلَعَلَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِ رَأْيِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِخَفِيِّ النُّصُوصِ

<<  <  ج: ص:  >  >>