للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْحِلِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أَيْ أَحَلَّ لَهُ. (١) وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ; إِذِ الْوَاجِبُ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ الشَّارِعِ بِمَا يَنْتَهِضُ تَرْكُهُ سَبَبًا لِلذَّمِّ شَرْعًا فِي حَالَةٍ مَا (٢) ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْفَرْضِ الشَّرْعِيِّ.

وَخَصَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ اسْمَ الْفَرْضِ بِمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مَقْطُوعًا بِهِ، وَاسْمَ الْوَاجِبِ بِمَا كَانَ مَظْنُونًا، مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ هُوَ التَّقْدِيرُ، وَالْمَظْنُونُ لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ مُقَدَّرًا عَلَيْنَا بِخِلَافِ الْمَقْطُوعِ، فَلِذَلِكَ خُصَّ الْمَقْطُوعُ بِاسْمِ الْفَرْضِ دُونَ الْمَظْنُونِ، وَالْأَشْبَهُ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ حَتَّى يَكُونَ هَذَا مَعْلُومًا وَهَذَا مَظْنُونًا، غَيْرُ مُوجِبٍ لِاخْتِلَافِ مَا ثَبَتَ بِهِ.

وَلِهَذَا فَإِنَّ اخْتِلَافَ طُرُقِ الْوَاجِبَاتِ فِي الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، بِحَيْثُ إِنَّ الْمُكَلَّفَ يُقْتَلُ بِتَرْكِ الْبَعْضِ مِنْهَا دُونَ الْبَعْضِ، لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْوَاجِبِ فِي حَقِيقَتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَاجِبٌ، وَكَذَا اخْتِلَافُ طُرُقِ النَّوَافِلِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِاخْتِلَافِ حَقَائِقِهَا، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ طُرُقِ الْحَرَامِ بِالْقَطْعِ وَالظَّنِّ غَيْرُ مُوجِبٍ لِاخْتِلَافِهِ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَرَامٌ، كَيْفَ وَإِنَّ الشَّارِعَ قَدْ أَطْلَقَ اسْمَ الْفَرْضِ عَلَى الْوَاجِبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} أَيْ أَوْجَبَ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مُشْعِرًا بِهِ حَقِيقَةً وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَدْلُولٌ سِوَاهُ نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ، وَالَّذِي يُؤَيِّدُ إِخْرَاجَ قَيْدِ الْقَطْعِ عَنْ مَفْهُومِ الْفَرْضِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى إِطْلَاقِ اسْمِ الْفَرْضِ عَلَى مَا أَدَّى مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِي صِحَّتِهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ بِقَوْلِهِمْ: أَدِّ (٣) فَرْضَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْخُصُومُ فِي تَخْصِيصِ اسْمِ الْفَرْضِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فَمِنْ بَابِ التَّحَكُّمِ حَيْثُ إِنَّ الْفَرْضَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّقْدِيرُ مُطْلَقًا، كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ أَوْ مَظْنُونًا، فَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ لَفْظِيَّةٌ.


(١) الظَّاهِرُ أَنَّ مَعَانِيَ الْفَرْضِ مَدَارُهَا الْقَطْعُ وَاخْتِلَافُهَا إِنَّمَا نَشَأَ مِنِ اخْتِلَافِ الْإِضَافَةِ أَوْ حَرْفِ التَّعْدِيَةِ، كَاللَّامِ وَعَلَى وَمِنْ، وَمِنْ تَأَمَّلَ الْأَمْثِلَةَ الْمَذْكُورَةَ وَنَحْوَهَا تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ.
(٢) مَا ذَكَرَ تَعْرِيفٌ لِلْوُجُوبِ أَوِ الْإِيجَابِ، لَا لِلْوَاجِبِ، فَفِي الْعِبَارَةِ تَسَامُحٌ لَمْ يَرْضَ مِثْلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعَارِيفِ الْوُجُوبِ.
(٣) صَوَابُهُ: أَدَّى.

<<  <  ج: ص:  >  >>