ثم انتسجت بينه وبين الوالد المحبة وتأكدت الصداقة والصحبة، وكان كل منهما يكاتب الآخر ويراسله، ويتحرى الإطناب في مدح الآخر ويحاوله، وقد أثبت من ذلك نبذة صالحة في كتابي المسمى بلغة الواجد، في ترجمة الإمام الوالد، وذكر ابن الحنبلي في تاريخه، أنه صحب صاحب الترجمة، وأخذ عنه وأنه قدم حلب مرتين نزل في الأولى بالمدرسة الأشرفية، وعمل فيها ميعاداً جليلاً على كرسي نصب له بإيوانها، فأتى فيه من سحر البلاغة والبراعة، في عين تلك العبارة، بالعجب العجاب، في مقام كان مقام أطناب، وكان ممن حضر هذا الميعاد الشهاب الأنطاكي، والشمس السفيري وابن الخناجر وآخرون من سوى العوام، ثم قدم في المرة الثانية في أوائل سنة أربع وخمسين، فأخذ في أربعين مجلساً بالجامع الكبير على قوله تعالى:" الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب " سورة الشورى: الآية ١٣، وأشار إلى أنه اقتصر على هذا العدد لموافقته عدد حروف حلب بحساب الجمل، وذكر ابن طولون في تاريخه، أن الشيخ شمس الدين حج هو وأخوه أبو الوفاء في سنة ثمان وثلاثين، فمر بدمشق ولما عاد في سنة تسع وثلاثين إلى دمشق عمل مجلساً يوم الجمة تاسع عشر صفر بجامع مسجد القصب، خارج دمشق في قوله تعالى:" ولله على الناس حج البيت " سورة آل عمران: الآية ٩٧، بسؤال بعض الحاضرين، وحضره أفاضل دمشق، ومنهم القاضي زين الدين معروف البلاطنسي، ثم هرعت أعيان البلد للسلام عليهما حتى قاضي قضاة دمشق، ثم سافر من دمشق بعد خمسة عشرة يوماً من وصولهما لدمشق، ثم قال ابن الحنبلي: بعد أن ما من الله تعالى به على صاحب الترجمة من سرعة الإنشاء بحيث لو أخذ في وضوء صلاة الجمعة وطلب منه على البديهة أن يخطب لعمل في سره خطبة عجيبة غريبة، وخطب بها ولم يتوقف على رسمها ورقمها مآلا. قال: وكان دمث الأخلاق، جمالي المشرب، عنده طرف جذب. ثم قال: وبالجملة فقد كان من أخيار الأخيار، وآثاره من بدائع الآثار، ولله دره فيما أنشد فيه من شعره بالسماع منه الشهابي أحمد الشهير بابن المنلا الشافعي حيث قال:
تنفس قلب الصب في كل ساعة ... لا كؤسهم فاء الزمان أدارها
إلى الله أشكو أن كل قبيلة ... من الناس قد أفنى الحمام خيارها
قلت: وهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر، والشيوخ عن التلامذة فإن ابن المنلا المذكور كان أحد تلاميذ ابن الحنبلي، وتأخرت وفاته عن رأس القرن الحادي عشر، قتله فلاحوه بقرية له بحلب، كان يتردد إليها، وكانت وفاة الشيخ محمد صاحب الترجمة بمدينة